افراسيانت - عماد الحطبة - لا تكتفي الرأسمالية بكل ما تفعله لمنع الدول من التنمية الذاتية، بل تعمد إلى دعم المشاريع التي تعمل على إفقار الدول مائياً، كدعم تركيا في حبسها مياه الفرات عن سوريا والعراق.
في دراسة جديدة للبنك الدولي بعنوان "الثروة الخفية للأمم: اقتصادات المياه الجوفية في أوقات تغير المناخ"، يركز البنك الدولي على المياه الجوفية بوصفها تأميناً طبيعياً يحمي الأمن الغذائي، ويحد من الفقر، ويعزز النمو الاقتصادي القادر على الصمود.
لا نستطيع إنكار الكثير -بل معظمه- مما ورد في هذا التقرير من حقائق. المياه الجوفية قادرة على الحد من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الجفاف، وخصوصاً في القطاع الزراعي، ويمكن لتحسين استخدام المياه الجوفية المحافظة على المزايا البيئية للمناطق الجغرافية المختلفة التي يمكن أن يدمرها الجفاف أو تحويل مجاري الأنهار أو بناء السدود وغيرها من النشاطات البشرية التي تحاول توفير الكميات التي يحتاجها الإنسان من الماء.
تشير الإحصائيات إلى أن 49% من المياه المستخدمة للأغراض المنزلية في العالم تأتي من المياه الجوفية. يتفاوت هذا الاستعمال من منطقة إلى أخرى في العالم، ففي حين يبلغ استخدام المياه الجوفية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا نسبة 92%، فإنه ينخفض إلى 20% في دول جنوب الصحراء الأفريقية.
يحمّل البنك الدولي، كعادته، المسؤولية للسلطات والسكان المحليين. من ناحية، يوجه التهم إلى سياسات الدعم الحكومي لقطاعات الزراعة والطاقة الخضراء التي تشجع المواطنين على استخراج المياه الجوفية بواسطة المضخات التي تعمل بالطاقة الشمسية، بهدف زيادة محاصيلهم الزراعية المدعومة حكومياً، ويرى التقرير أن المواطنين يلجأون إلى الاستخدام الجائر للمياه الجوفية، ومن دون تراخيص حكومية في غالب الأحيان.
ما يغيب عن تقارير البنك الدولي في كل المواضيع، وليس موضوع المياه الجوفية فقط، هو دور العامل الخارجي الاستعماري في جميع الأزمات التي تصيب شعوب العالم. في الوطن العربي، يعاني العراق والصومال حالة إجهاد مائي، في حين تعاني مصر والسودان وسوريا ولبنان حالة ندرة مائية.
بعيداً من تعريف الفرق بين الإجهاد والندرة المائيين، لا يمكن إلا أن نلاحظ أن الدول المذكورة عانت، وما زالت تعاني، من ويلات سببها الاستعمار، سواء بالاحتلال المباشر أو بتدمير البنى التحتية بالعقوبات الاقتصادية والحصار أو نهب ثروات البلاد من خلال اتفاقيات النهب الاستعماري.
لا تكتفي الرأسمالية بكل ما تفعله لمنع الدول من التنمية الذاتية، بل تعمد إلى دعم المشاريع التي تعمل على إفقار الدول مائياً، كدعم تركيا في حبسها مياه الفرات عن سوريا والعراق، ودعم إثيوبيا في حبس المياه عن السودان ومصر.
يشير تقرير التنمية البشرية في مصر لعام 2022 إلى تراجع حصة الفرد المصري من المياه العذبة إلى 496 متراً مكعباً بحلول عام 2025، علماً أن خط الفقر المائي العالمي يبلغ 1000 متر مكعب سنوياً للفرد.
لا يُظهر التقرير أن توزيع المياه العذبة المتوفرة عالمياً بشكل عادل يمنح الفرد الواحد من البشر حصة تبلغ 7000 متر مكعب سنوياً، لكن الواقع يقول إن ربع سكان العالم لا يحصلون على مياه عذبة صالحة للشرب. أين تذهب المياه العذبة إذاً؟
"ابحث عن الرأسمالية". جواب صالح بنسبة 100% في كل أزمة من أزمات العالم. الصناعات الرأسمالية تلوث المياه السطحية والجوفية في كل مكان في العالم. هذه الصناعات، سواء كانت مباشرة من رأس المال الاستعماري أو من وكلائه المحليين، أثرها واحد. لا يجب الوقوف عند شركة مثل "شل" التي تمثل واحدة من أكثر الشركات تلويثاً للبيئة في العالم، بل يمكن أن يمتد ذلك إلى نشاطات تعدينية أخرى، مثل استخراج الذهب.
في مالي، يمثل نهر النيجر مصدراً لحياة 75% من السكان، لكن نشاطات البحث عن الذهب واستخدام المواد الخطرة، كالزرنيخ والزئبق، في هذه العملية، أديا إلى انخفاض منسوب النهر ونقص إمدادات الثروة السمكية التي تشكل أحد أهم مصادر الغذاء للسكان.
في العراق، تشير الأرقام إلى أن الجفاف وانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات أديا إلى انخفاض المساحات المزروعة بالقمح والشعير إلى 7 ملايين دونم عام 2022 مقارنة بـ12 مليون دونم عام 2022.
يضاف إلى كل ما سبق، فرض الشروط على الدول للحصول على القروض والمنح. هذه الشروط، وإن كان بعضها سياسياً، فإن الكثير منها يكون اقتصادياً ويحدد مجالات استخدام الأموال. يعمل الاستعمار من ناحية أخرى على توتير العلاقات بين الدول المتجاورة لمنع إمكانية قيام مشاريع مشتركة تحقق الاكتفاء الذاتي في مجالات اقتصادية، وتخفض اعتماد الدول على الاستيراد من المراكز الرأسمالية.
إن كنا نتحدث عن الثروة الحقيقية للأمم فهي المقاومة، وليس المقصود المقاومة العسكرية فحسب، ولكن المقاومة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضاً. من دون مقاومة للثقافة التي يحاول الغرب نشرها، والتي تعتمد على مفهومي الاستهلاك والندرة، فإننا سنبقى أسرى أدوات النهب الرأسمالي بأشكالها المختلفة.