افراسيانت - وسيم ابراهيم - لم يكن قادة أجهزة المخابرات الأوروبية سعداء إطلاقاً، لا بالاتصالات التي تلقوها ولا بمضمونها. بعضهم على الأقل كان عبارة عن كتلة من الامتعاض. لا يريدون تغيير عقليتهم، أو آليات عملهم، فتقاليد السرية المطلقة معبودة في تلك الأماكن المخفية.
لذلك جاءت النتيجة كما هي الآن: «لا» بالجملة. «لا» لأي نزع للصلاحيات من يد أجهزة الاستخبارات الوطنية. «لا» لتحرير ضخ المعلومات، حتى لو كانت حول مكافحة الإرهاب و «الجهاديين»، إلى جهاز الشرطة الأوروبية «يوروبول». «لاءات» أدت إلى «فيتو» صارم على إنشاء «المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب» ضمن «يوروبول».
شكل ذلك، بالطبع، خيبة أمل للمنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف. الرجل أخذ الأمور على كامل محمل الجد. قال للأوروبيين إن الخطر الإرهابي، وتهديد «الجهاديين»، جعل أوروبا تعيش وضعا أمنيا غير مسبوق في خطورته. كرر زعماء الاتحاد الأوروبي تلك الخلاصة، وجاءت هجمات باريس لتجعلهم يظهرون أن لا أولوية تعلو على هذه القضية. كان منظرهم متكاتفين في مسيرة التضامن الفرنسية إيذانا بأن أوروبا تعيش حالة طوارئ. كلفوا وزراء الداخلية والمنسق الأوروبي العمل على وجه السرعة، وتقديم مقترحات ملموسة.
عمليات العصف الذهني التي قام بها دو كيرشوف كانت تؤدي إلى الوجهة ذاتها: ضرورة إنشاء هيئة أوروبية جديدة، همها وشغلها تولي مسؤوليات مكافحة الإرهاب. بعث برسالة إلى وزراء الداخلية يحثهم فيها على دعمه، والعمل معا لإنشاء «المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب».
هناك عدة حقائق شجعته على تقديم هذا الطرح الجريء. قبل كل شيء إنها لحظة أمنية استثنائية، تحتاج مقترحاً قوياً. هناك مصلحة مشتركة في مكافحة الإرهاب تشمل جميع دول الاتحاد. أما من الناحية العملية، فالقضية تمس عمل الشرطة والقضاء وغيرها من الأجهزة، وليست من اختصاص الاستخبارات وحدها كي تبقى محصورة بها. لذلك اقترح ضرورة تغيير عقلية الاستخبارات الأوروبية، أي أن تكون «أكثر انفتاحا» بلغته، وتبدأ في ضخ كل المعلومات المتصلة بمكافحة الإرهاب إلى الهيئة الأمنية الجديدة.
في البداية، ظهر أن وزراء الداخلية يشجعون الفكرة. أكدوا في اجتماعهم الأسبوع الماضي أنهم عائدون ليحثوا أجهزة الاستخبارات على دعم مبادرة دو كيرشوف. لكن لا يبدو أن الاتصالات التي أجروها خرجت بنتيجة إيجابية: الاستخبارات لا تريد هذا التعاون من أصله.
كان منسق مكافحة الإرهاب يبني الدعم لمبادرته، وصولا إلى أن يتبناها زعماء الاتحاد الأوروبي في قمتهم. لكن البيان الذي أعد للقمة، ، لم يتضمن أي إشارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى إنشاء مركز مكافحة إرهاب أوروبي.
عدم القبول الذي لاقته المبادرة أكده مسؤول أوروبي رفيع المستوى. وقال إن «أجهزة الاستخبارات ستبقى تعمل وفق الآليات القائمة، ولن يتم الآن إنشاء أي مؤسسات جديدة». ودافع عن هذا الخيار، معتبرا أن «هناك تعاوناً فعالاً جداً للمعلومات، ربما ليس بين دول الاتحاد الثماني والعشرين، ولكن بالتأكيد بين استخبارات الدول المنخرطة في ذلك».
وشرح المسؤول أن التنسيق الأوروبي في المجال الاستخباراتي، بما فيه مكافحة الإرهاب، سيبـــــقى في يد «اللجنة الأمنية الأوروبية»، التي تضم رؤساء أجهـــــزة الاستخبارات في دول الاتحاد، ويلتحق باجتماعاتها أحيانا المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب. وقــــــال المســــؤول الأوروبي إن هذه الآلية لن تتغير الآن بل «سيبقى التنسيق مسؤوليتهم، وستــــــبقى طريقة عملهم على حالها: يجتمعون مرتين في السنة في أماكن سرية».
وكان من شأن إنشاء المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب جعل الأنشطة الاستخباراتية، في هذا المجال، تحت الرقابة والمساءلة بما يفوق بأضعاف ما يحصل الآن. ولن تتمكن الاستخبارات من التحرك على هواها، ومن شأن ذلك أيضاً إعاقة الوتيرة التي يجري بها عملها.
كان ذلك من بين الأسباب التي جعلت مبادرة دو كيرشوف تقابل بالرفض، كما يرى مسؤول رفيع المستوى في الخارجية الأوروبية ،وقال إن امتعاض أجهزة الاستخبارات مبرر لأن «قضية تبادل المعلومات مسألة شائكة، وهي تتصل بعمق سيادة الدولة، وتحتاج إلى أرضية صلبة من الثقة».
كان منسق مكافحة الإرهاب يأمل أن يتعامل المركز المأمول إنشاؤه مع دول الجوار السوري، خصوصا بالنسبة إلى مواجهة تهديد «الجهاديين». لكن المسؤول الأوروبي يقول إن القضية صعبة بين الأوروبيين، فكيف إن تعلقت بطرف ثالث. لإعطاء مثال على ذلك يطرح «المشاكل العميقة» التي تعانيها أجهزة استخبارات العراق. يقول عن ذلك «لديهم عدة أجهزة استخبارات، وهي لا تتحدث إلى بعضها، ولا تتبادل المعلومات، أو تتبادلها لكن ليس في الوقت المحدد، أو لا تتم فلترتها بالطريقة الصحيحة».
هبّة الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب جعلته يعد مشاريع للعمل مع دول الجوار السوري، خصوصا بالنسبة للمساعدة في تحسين قدراتها الأمنية. مشاكل الأجهزة الأمنية العراقية، جعلت أحد مجالات التعاون تركز على حلها. ويقول المسؤول الأوروبي إن «أحد المجالات التي نتصور العمل معهم عليه هو تطوير ما نسميه مركز إنصهار، لجعل المعلومات الاستخباراتية متوفرة وفعالة، بحيث يمكنك الاستجابة في الوقت المناسب إلى أي تهديدات ناشئة».
ما طرحه المسؤول الأوروبي من تحديات، للعمل مع طرف ثالث أيضا، يمكن سحبه على فكرة إنشاء مركز مكافحة الإرهاب. كان يتحدث عن أنه لا يمكن للمخابرات الأوروبية العمل مع مخابرات أخرى، لا تعلم كيف تعمل وإن كانت تحترم أي حقوق ومعايير دولية: «ما الذي يمكن أن يحدث لشخص يمكن أن يعتقل بناء على المعلومات السرية التي أعطيتها، وهل أنت جاهز لتحمل المسؤولية عن احترام الطرف الثالث لحقوق الإنسان؟».
لكن إطار عمل الاستخبارات الأوروبية الحالي لم يعدم انتهاك حقوق الإنسان، ونقل سري للمعتقلين بطلب من الأميركيين ولصالحهم، كما كشفت فضائح عديدة. إخراج بعض هذا العمل من الظلمة، ووضعه في إطار هيئة خاضعة للمساءلة ومكشوفة أكثر، مثل «يوروبول»، لن يسمح للاستخبارات أن تسرح على هواها.
وبدلا من إعطاء «يوروبول» بعض صلاحيات الاستخبارات، بالنسبة لمكافحة الإرهاب، يبدو أن الأوروبيين يفضلون إبقاء الأمر في نفس البيئة. البيان المعد للقمة الأوروبية أوضح أن القادة يريدون دوراً أكبر لـ «مركز التحاليل الاستخباراتية للاتحاد الأوروبي». يريدون تقوية مهامه، كمركز للتقييم الاستخباراتي الاستراتيجي الأوروبي، ليشمل أيضا مكافحة الإرهاب.
المركز يديره الآن إيكا زالمي، الرئيس السابق للمخابرات النروجية، ويضم محللي استخبارات، يعمل معهم موظفون أرسلتهم أجهزة الاستخبارات الأوروبية. ويعمل مع المركز، ويزوده بالمعطيات التي يحتاجها، أجهزة الاستخبارات في الدول الأوروبية. لذلك فعمله لا يقوم على مهام تشغيلية، بل على تزويد صناع القرار الأوروبي بالتقييم الاستراتيجي. وشدد زالمي سابقا على أن «الأزمة السورية والجهاديين» أولوية لديهم، شارحا مهام فريقه بالقول «نحاول أن يكون لدينا نظرة مستقبلية للتطورات في بعض مناطق الأزمات، أو الديناميات بين الفصائل المختلفة في بلد ما، وما الذي يمكن أن يعنيه ذلك في المستقبل القريب».
وبرغم الرفض الرسمي من الحكومات الأوروبية، لكن المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب تلقى دفعة دعم لمقترحه. البرلمان الأوروبي خرج بقرار يؤيد إنشاء هيئة، ضمن «يوروبول»، تختص بمكافحة الإرهاب. لكن ضغوطا من هذا النوع لا فرص كبيرة لنجاحها، طالما أن «الفيتو» موضوع من أجهزة المخابرات النافذة.