افراسيانت - المتتبع للشأن الإسرائيليّ يُلاحظ من خلال تصريحات أركان دولة الاحتلال وإعلامها المُتطوّع لصالح “الأجندة الصهيونيّة”، يُلاحظ أنّ هذا الدولة المارقة والمُعربدة بامتياز تعيش حالةٍ من الهستيريا بسبب إضراب الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال.
تصريحات كبار المسؤولين في تل أبيب بأنّهم سيقمعون الإضراب بيدٍ من حديد لم تُجدِ نفعًا، بل بالعكس زادت من إصرار الأسرى على المضي قدمًا في إضرابهم. وجريًا على العادة الإسرائيليّة الممجوجة، والتي أكل الدهر عليها وشرب، سعت وتسعى الدولة العبريّة، بأساليبها الخبيثة إلى تأليب الرأي العّام الفلسطينيّ على الأسرى، فتارةً تزعم أنّ الإضراب هدفه تقوية مكانة الأسير القائد مروان البرغوثي، ليكون ندًّا لرئيس السلطة محمود عبّاس في النزاع على الوراثة.
وتارةً أخرى، يدأب صنّاع القرار على تسريب معلوماتٍ للإعلام العبريّ المُجنّد لدقّ الأسافين بين أبناء الشعب الواحد، حيث يزعمون أنّ قادة السلطة الفلسطينيّة ليسوا راضين عن الإضراب، لأنّه، بحسب المصادر الفلسطينيّة، التي يدّعون أنّهم يعتمدون عليها، لأنّ هذه الخطوة، أيْ الإضراب، ستؤدّي إلى المسّ السافر باللقاء المُرتقب بين الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب ورئيس السلطة الفلسطينيّة، محمود عبّاس في واشنطن.
وعلى الرغم من ذلك، لا نُجافي الحقيقة إذا جزمنا بأنّ قضية الأسرى السياسيين الفلسطينيين تحوَّلت إلى قضيةٍ قائمةٍ بذاتها، رغم كونها من القضايا المتفرعة عن مقاومة الاحتلال، وذلك بفعل عددهم الكبير في السجون الإسرائيليّة، وأداء أجهزة الإكراه والقمع التي تعاملت معهم كمدخل وأداة للضغط على الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق، سعت إسرائيل أيضًا إلى حرف أولويات الشعب الفلسطيني وفصائله، وهدفت إلى دفعه نحو استبدال عنوان تحرير الأرض، كأولوية تتقدم على باقي الأولويات، بعناوين أخرى، هي في الواقع تحتل أولوية متقدمة في سياق حركة المقاومة من أجل التحرير، من قبيل تحسين الظروف المعيشية، أوْ تحرير الأسرى، أوْ تخفيف سياسة التنكيل ضدّهم، على أمل أنْ تتحول وجهة النضال نحو هذه العناوين على حساب القضية الأم، أيْ التحرير.
على هذه الخلفية، يأتي تعمّد إسرائيل سجن هذا العدد الكبير من الأسرى والمعتقلين عبر إصدار أحكامٍ قضائيةٍ تقضي بالسجن لسنوات طويلة، ويصل عدد لا بأس منها إلى أرقام خيالية. كذلك ربطت تحريرهم بحالة من اثنتين: إمّا بفعل عملية تبادل أسرى، أوْ في سياق سياسيّ محدَّد في خدمة مسار الـ”تسوية”.
على خط موازٍ، حوَّل الأسرى أنفسهم قضيتهم إلى عاملٍ مُحرّكٍ للشارع الفلسطيني، وبات تحركهم يُرعب صنّاع القرار السياسيّ والأمنيّ في تل أبيب، وفي ذلك إدراك منهم بأنّ قضيتهم تحظى بإجماع تيارات وفصائل الشعب الفلسطيني كافة، بمن فيهم المنقسمون حول خياري التسوية والمقاومة.
علاوة على ذلك، فإنّ ما يعزز حضور الأسرى في كل منزل أنه منذ عام 1967 مرّ في السجون الإسرائيلية أكثر من 600 ألف فلسطيني. ونتيجة ذلك، لا تكاد توجد عائلة فلسطينية، تقريبًا، لم يعتقل أحد أبنائها، وهكذا تحول السجن إلى جزء من التجربة الجماعية التي تبلور معالم هذا الصراع في وجدان كل عائلة فلسطينية.
بالإضافة إلى ما ذُكر أعلاه، أحبط صمود الأسرى أنفسهم كل مساعي إسرائيل الهادفة إلى تحطيم إرادة المقاومة لديهم. ونتيجة ذلك، باتت السجون قلعة من قلاع النضال والمواجهة، وساحة يُعبّرون فيها عن مواقفهم وخياراتهم المقاوِمة إزاء كل القضايا والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، كما تمكّن الأسرى، عبر مسار نضالي طويل، انتزاع الكثير من الحقوق، تحوَّلت كل محطة فيه إلى إنجاز إضافي في سجل الأسرى والمقاومة في فلسطين.
كما أنّه من المُلاحظ أنّه مع كلّ إضراب للأسرى، تتصدر المطالب المتصلة بعناوين الحياة: الوضع الصحي والغذائي والإعلامي والتعليمي، لكن تبقى حركة الإضراب عن الطعام جزءً من نضالات الشعب الفلسطيني، وامتدادًا لمقاومته وانتفاضته ضد الاحتلال. وفي التوقيت، يلاحظ أنّ الإضراب أتى في سياق يتّسم بـانعدام الأفق السياسيّ على مستوى التسوية، وفي ظلّ وضعٍ اقتصاديٍّ صعب، وبشكلٍ خاصٍّ اً في قطاع غزة، وانقسام فلسطيني داخليّ، وأيضًا في ظل قمع أجهزة الأمن أي تحرك شعبي ومقاوم ضدّ الاحتلال.
هذه الأمور مُجتمعةً، تدفع قادة تل أبيب إلى الخشية من مفاعيل هذا الإضراب من زاوية أنّه سلاح بديل للأسرى، وهو في كل الحالات (خطوة) سياسية وأهدافه سياسية، وهذا ما كان خلال الإضرابات العشرين عن الطعام التي نظمها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية منذ عام 1969.
وفي السياق عينه، حذّرت تقارير إسرائيلية أيضًا من الاستهتار بالإنجازات التي حققوها عبر الإضرابات، وفي مقدمتها الحصول على مكانة الأسرى السياسيين، الذين تختلف مكانتهم في السجون عن مكانة الجنائيين، وبما لا يقل عن ذلك، مكانة أخلاقية ووزن نوعي خاص في المجتمع الفلسطينيّ، على حدّ تعبير التقارير التي تعتمد على محافل أمنيّة وسياسيّة في إسرائيل.
وغنيٌ عن القول إنّ قادة تل أبيب، الذين اختاروا سقف التصعيد بلا حدود، يهدفون إلى كسر إرادة الأسرى، وهو ما تجلّى في دعوة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان إلى ترك الأسرى يموتون من الجوع من دون تلبية مطالبهم، ودعوة وزير الاستخبارات والمواصلات يسرائيل كاتس إلى تطبيق عقوبة الإعدام بحقّ الأسرى الفلسطينيين، كذلك دعا نتنياهو إلى تشريع تطبيق هذه العقوبة مثل ما تنصّ عليها القوانين العسكريّة الإسرائيليّة.
خلاصة القول: في تاريخ الصراع المرير بين حركة التحرر الوطنيّ الفلسطينيّ والحركة الصهيونيّة، لم تتمكّن الأخيرة من كسر الإجماع حول قضية الأسرى، هذا ما كان، ووفق كلّ المؤشّرات والدلائل، هذا ما سيكون.