افراسيانت - منير شفيق - جاء الردّ الروسي في قصف كييف، يوم الاثنين 10 تشرين الأول، حكيماً. وذلك حين لم يلجأ إلى النووي مقابل ما وجّهت له من ضربات عسكرية مؤلمة، ولا سيما التفجير الذي تعرّض له جسر كيرتش الرابط بين القرم والبرّ الروسي. وهو ردّ يعدّ من الناحية العسكرية «خفيفاً»، قياساً، مثلاً، بالقصف التمهيدي الذي تعرّض له العراق من الولايات المتحدة الأميركية، سواء كان عام 1991، أو كان عام 2003، أو إذا قورن بقصف بيروت عام 1982 من الكيان الصهيوني، مدعوماً ومباركاً من أميركا.
طبعاً ثارت ضجة عالمية على القصف الروسي لكييف بثمانين صاروخاً. وعدّه الرئيس الأميركي جو بايدن قصفاً وحشياً فظيعاً. وهو في حقيقته ما زال ضمن الاستراتيجية الروسية المتحفّظة إزاء المدنيين، والبنى التحتية. وسوف يصدق المعلق العسكري لو اتهم تلك الاستراتيجية بأنها مقيّدة، طوال ثمانية أشهر، بمراعاة المدنيين، وتقاتل نصف قتال، ونصف حرب. ولعل هذا ما عناه الرئيس الأميركي فلاديمير بوتين في أحد تصريحاته، حين قال «إن الجدّ لم يبدأ بعد» ويقصد الحرب في أوكرانيا.
لا شك في أن أميركا و«الأطلسي» يعرفان ذلك، وقبلهما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ولكن هذه المعرفة لم تمنع من شدّ النكير على روسيا، والإلقاء بكل الثقل العسكري الممكن في دعم الجيش الأوكراني، وتشجيعه على المضيّ بالحرب إلى منتهاها. أي تحقيق هدف إنزال هزيمة عسكرية مذلّة ببوتين، وبالجيش الروسي. ثم الانتقال لفتح جبهة الصين.
عندما تجعل أميركا والغرب هدف الحرب في أوكرانيا إنزال الهزيمة ببوتين وروسيا، فإنهما ذاهبان إلى التصعيد فالتصعيد، وصولاً إلى النووي. وذلك إذا لم يستطع بوتين أن يردعهما بالأسلحة التقليدية. وهو لم ينزل بكل ثقله بعد، والدليل هو الانتقال إلى ما يشبه الجدّ، بتوجيه 80 صاروخاً في يوم واحد إلى كييف، ثم ما تلاه من قصف أخذ يشتدّ، ليشمل عدة مدن أخرى.
توعّد بايدن، في ردّه على الضربات الروسية، بأن يصعّد بتسليح الجيش الأوكراني بأرقى الأسلحة المضادة للطائرات والصواريخ، وبمزيد من أسلحة الهجوم التكتيكي. وقد فعلت ألمانيا وبريطانيا مثله. وهذا يعني باختصار أن أميركا «راكبة رأسها» وتريد أن تذهب إلى الحسم.
وأرفق بايدن هذا التصعيد بالضغط على الصين من خلال الشركة التايوانية «تي.إس.إم»، المنتج الأكبر للرقائق الإلكترونية، التي ستوقف تصديرها إلى الصين. وذلك تجاوباً مع الشروط الأميركية ضدّ الشركات التي لا تستجيب لوقف الإتجار مع الصين. وهذا يعني، باختصار، أن أميركا «راكبة رأسها»، أيضاً، ضدّ الصين، وذاهبة إلى الحسم معها، غير منتظرة حتى نهاية الحرب مع روسيا.
وهنا يجب أن يُلحظ أن أميركا أخذت تُصعّد ضدّ إيران، أيضاً، سواء من ناحية زيادة العقوبات، أو السعي لحشد عالمي، للتدخل في الشأن الداخلي الإيراني، عبر استغلال قضية مهسا أميني.
إن الظاهرة اللافتة في هذا التأجيج المؤدي إلى الحرب العالمية، إذا لم يوقف، تتمثل في السلوك الشعبي والنخبوي الغربي، اللذين لا يُعليان صوت الاحتجاج، ضد السياسات الأميركية، التي تتهدّد العالم بحربٍ لا تبقي ولا تذر. لأن من غير الممكن لأميركا أن تحقق أهدافها ضدّ الصين وروسيا من خلال العقوبات، وحروب تقليدية فقط. والدليل استمرار أميركا وأوروبا في صبّ الزيت على النار في أوكرانيا، كما المضيّ في استفزاز الصين، ودفعها لاحتلال تايوان. وهذا ما فعلته مع روسيا في أوكرانيا. وذلك حين راحت تسلّح أوكرانيا وتدرّب جيشها إلى مستويات تهدّد الأمن القومي الروسي، ما فرض على بوتين التدخل لوضع حدّ له بعمليات عسكرية. وقد يئس من أن يُستجاب لكل محاولاته تحييد أوكرانيا بوقف هذا التهديد الذي لا يستطيع السكوت عنه. وقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أنها حرب أميركية، فما إن اندلعت حتى راحت تؤجّجها.
وهذا بالضبط ما تفعله مع الصين في تايوان، من خلال الزيارات التي قام بها أعضاء من الكونغرس، وإجراء عدد من المناورات العسكرية، فضلاً عن مشكلة منع وصول الرقائق إليها، ما يدفع الصين دفعاً إلى الحرب. هذان المساران، إذا استمرت أميركا على مواصلتهما، كما تفعل الآن، فإن الحرب التي تبدأ دون سقف النووي، قد تخترق هذا السقف. ولا أحد في العالم يمكنه ألّا يأخذ هذا الاحتمال في الحسبان.
وهنا ثمّة سؤال كبير، كيف لا يُصار إلى التحرك الشعبي والنخبوي، في الغرب أولاً، لاستنكار هذه السياسات الأميركية - الأوروبية (بريطانيا وألمانيا أساساً). صحيح أن الشعوب الغربية في السابق، ولمّا تزل، تدعم دولها في الحروب التي تخوضها. وصحيح أن الأصوات المحتجة، ضد سياسات الحرب، كانت في الغالب، مهمّشة. ولكن كانت ذات تأثير ما. وأحياناً كانت تربك سياسات الحرب، وخصوصاً في مرحلة الحرب الباردة، وفي الخمسينيات من القرن العشرين، في أخصّ الخصوص. وصحيح أن الشكل الذي اتخذته الحرب الأوكرانية بدا كأن السبب والمعتدي هو روسيا، وكأن الشعب الأوكراني هو المظلوم. ولكن ثمانية أشهر من الحرب، أثبتت، بدلائل لا تدحض، أن أميركا و«الناتو» يريدان الحرب حتى الحسم، وكذلك بالنسبة إلى الصين، التي راحت أميركا تدفعها دفعاً لغزو تايوان.
من هنا، يقف العالم كله أمام تهديد حقيقي لا يخرج منه منتصر ومهزوم. ولا خيار إلّا بالتنبّه إليه جيداً، وعدم حمل أيّ أوهام حوله. فأميركا في محاولتها الانتصار على روسيا تسرع بالوصول إلى المواجهة النووية، وكذلك في محاولتها الانتصار على الصين، ستدفع بالصراع إلى الحرب النووية. ومع ذلك، أميركا مصرّة على الانتصار في الجبهتين. وهذا الإصرار سيقود، إن لم يتوقف، إلى الكارثة العالمية، حيث لات ساعة مندم، أو تراجُع، الأمر الذي يوجب التحرك ورفع الصوت في الداخل الأميركي والأوروبي، أولاً، كما في كل العالم.
* كاتب وسياسي فلسطيني