افراسيانت - منى سكرية* - بالوثائق المُؤرّخة والمتنوعة المراجع والمصادر استطاع عباس شبلاق في كتابه الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «هجرة أو تهجير- ظروف وملابسات هجرة يهود العراق»، إثبات أو تثبيت دور الصهيونية والاحتلال البريطاني والضغط الأميركي والتواطؤ الرسمي العراقي في عملية التهجير تلك، مؤكداً «أنه أول كتاب يستند إلى الوثائق العراقية والبريطانية التي ُأفرج عنها والمتعلقة بهجرة الطائفة على النحو الذي تمت فيه، إذ كانت هجرة من دون رغبتها، ومن وراء ظهرها، وساهم في تنفيذها أكثر من طرف محلي ودولي، وبتخطيط مُسبق من الحركة الصهيونية» (ص3 من 308 مجموع صفحات الكتاب مع الملاحق والمراجع).
وتكاد لا تخلو صفحة من إثبات مُؤرشَف يدحض بعض ظلال بربرية العرب (الوصف لهرتزل) في إنكارهم التنوع الديني أو العرقي وبخاصة في ما يتعلق بالطائفة اليهودية في العراق موضوع الكتاب، ما يعني أيضاً إثارة مسألة جلد الذات بأقلام عربية بخصوص نبذِها لفكرة المؤامرة خوفاً من إدانتها بالتخلف الحضاري.!
عملية الفرهود التي أصابت العراق من خلال ما تعرضت له الطائفة اليهودية بداية الأربعينات من القرن الماضي هي المتن الذي بنى عليه شبلاق موضوع «تحرياته» بمنهجية الأسلوب العلمي، وبلغة تجاوزت مأساته الفلسطينية إلى وعي باحترام عدد من اليهود المتجاوزين للصهيونية ممن ساهموا في كشف تلك الأدوار.
رفض يهودي وتنفيذ صهيوني
من الخلفية التاريخية لتواجد الطائفة اليهودية في العراق «الطائفة الوحيدة المتأصلة الجذور والمنتظمة في أصلها بين الطوائف اليهودية في البلاد العربية» (ص 6)، وإلى تمكنها في التجارة والمال والتعليم وبناء المؤسسات وتولي مناصب حكومية وفي الفنون والثقافة (ينقل عن حنا بطاطو انه من أصل 39 صيرفياً عام 1936 في بغداد كان منهم 35 من اليهود – ص-33)، أظهر شبلاق البعد الوطني في انتمائهم، الأمر الذي أكده في سياق رفضهم للهجرة إلى إسرائيل بإرادتهم، وهو ما بيّنه في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان «الإرث الاستعماري وتأثيره في يهود العراق» وتسلسل الخطط وسبل تنفيذها في تهجير هؤلاء وكما جرت في كواليس بريطانية- صهيونية- أميركية – عراقية رسمية.
وفي ملخص روايته الموثقة عن تلك المؤامرة والأدوار يقول: «إن مسالة الأقليات في هذه الأقاليم أخذت أهميتها تزداد بعد تعاظم قوى الاستعمار الأوروبي في المشرق العربي»، مشيراً إلى تقرير المكتب الصهيوني في فلسطين عام 1908 حول «استخدام فقراء يهود الشرق من أجل إيجاد حل لمسألة نقص اليد العاملة في المستوطنات اليهودية»، وحول «إنزال القوات البريطانية جنوداً من الهند وأستراليا ونيوزيلندا في البصرة بداية مايو (أيار) 1941 والتي اقتربت من بغداد في أواخر الشهر نفسه بينما شاركت قوات أخرى كان من ضمنها قوة حرس الحدود من البادية الأردنية، ووحدة عسكرية من منظمة إرغون تسفائي لومي، أي المنظمة العسكرية القومية، وهي منظمة يهودية ألحقت بالقوات البريطانية الزاحفة من الشرق بعد عبورها الحدود مع الأردن» (ص52)، وما نجم عن ذلك من تطيير لحكومة رشيد عالي الكيلاني، وإعادة الوصي على عرش العراق عبد الإله، وما رافقه من حصول عملية الفرهود أي عمليات النهب والسلب في غياب القانون والنظام.
وإذ أبدى شبلاق شكوكه حول «عدم وجود وثائق متعلقة بأحداث العنف في حزيران 1941 ضمن وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي أُفرج عنها» (ص54)، فإن ذلك لم يمنعه من توثيق ما حصل حول دور مبعوثي الصهيونية إلى العراق تحت مسميات شركة إنشاءات (سوليل بونيه) ويمتلكها الهستدروت، ودور وكالة التنمية اليهودية، والموساد، فـ «اكتمل المشهد الذي أعدته الحركة الصهيونية وحلفاؤها من القوى الكبرى لتهجير اليهود، وخضعت لتنفيذه القوى الحاكمة في العراق (ص61)، ومنها قرار حكومة توفيق السويدي عام 1950 بإسقاط الجنسية عن أي عراقي يرغب باختياره الحر من مغادرة العراق نهائياً»، واتهام عضو مجلس الأعيان مزاحم الباجه جي للحكومة «بالخضوع لمطالب الصهيونيين»، (ينقل شبلاق عن مقالة لمحمود عباس في مجلة الطليعة المصرية عدد تموز 1976 قوله إن قانون إسقاط الجنسية صدر بعد اتفاق بين نوري السعيد ومسؤول بريطاني في اجتماع سري عقد في فيينا عام 1949)، و»حث الملك فيصل وجهاء الطائفة اليهودية على تأسيس جمعية صهيونية في بغداد إلا أنهم اعترضوا على الفكرة «(ص105)، إضافة إلى بن غوريون مهندس تلك الحملة والتهجير، (يذكر أن بن غوريون وضع عام 1942 خطة تهجير اليهود من الدول العربية، ووضع لائحة بكيفية استيعابهم ومنها نوعية المأكولات والسعرات الحرارية فيها)! إلى «دعم الأميركيين الخطط الصهيونية لإقناع اليهود العراقيين بالهجرة إلى إسرائيل» (تقرير أميركي سري عام 1949 –ص-113).
وتشير الأرقام إلى أنه خلال الفترة أيار 1948 وأيار 1951 وصل إلى إسرائيل 310 آلاف مهاجر من الدول العربية والإسلامية في مقابل 276 ألف مهاجر من أوروبا وأميركا ودول الكومنولث البريطاني» (ص128)، من بينهم 40 ألفاً مجموع يهود اليمن برعاية وكالة التنمية اليهودية ولجنة التوزيع الأميركية- اليهودية والموساد، وترتيبات مع إمام اليمن.
وللتعجيل في تنفيذ تلك الخطط التي عاندها الكثير من وجهاء الطائفة اليهودية، كان لا بد من إثارة الجانب الأمني لإنزال الرعب في قرارهم النهائي، لأنه كما يذكر «في الوقت الذي كان اليهود السوريون في الأربعينات يهاجرون بالآلاف كان اليهود العراقيون يشترون الأراضي، ويشيدون المدارس، ويقيمون مؤسسات تجارية جديدة في وطنهم العراق» (ص142)، هنا بدأت سلسلة من التفجيرات التي استهدفت أماكن يهودية وكنس دينية أمكن للتحقيقات كشف «الخلايا الصهيونية» الواقفة خلفها (ص158 و ص161)، فأنكرت الدوائر الإسرائيلية ذلك، «لكن الدليل جاء بعد أكثر من عامين على خروج يهود العراق، لكن من مصر وليس العراق، ففي تموز (يوليو) 1954 ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على عدد من عملاء الموساد بتهمة رمي قنابل على أملاك أميركية وبريطانية في مصر وذلك في قضية عُرفت بفضيحة لافون التي أجبرت بن غوريون رئيس الحكومة على الاستقالة، واعترف وزير الدفاع الإسرائيلي بقوله: «لم يُبتكر هذا النوع من العمليات لمصر، وإنما جُرّب أولاً في العراق» (ص164).
في ظل تفاوض السويدي-هليل أحد عملاء الموساد تم نقل اليهود بطائرات تملكها الوكالة اليهودية إلى إسرائيل، وكانت تنقل في رحلات العودة حجاجاً مسلمين إلى مكة من اسطنبول ودمشق وبيروت (ص 153) بعد أن «رفضت حكومة السويدي السماح للطائفة اليهودية بتنظيم عملية سفر اليهود، أو حتى الاشتراك في التنظيم، إذ تركت هذه المهمة لرجال الموساد الذين أصبحوا يعملون في العلن (ص167).
كانت عملية الفرهود بأيدي وخطط صهاينة في بغداد وارتكابهم مجازر بحق الشعب الفلسطيني لتشريده من أرضه... وكل ذلك جرى لقاء عمولات مالية بدل مهنة عمالة تجّند لها عملاء عرب احتلوا مواقع رسمية... واللائحة تطول، وتطاول تاريخ من حقبات الاستقلال العربي برموز عدة منه لم تفلح سوى بأداء الأدوار المنفذة لتلك الخطط على مسرح نكبة فلسطين.
وإذ أشاد شبلاق بأعمال المؤرخين وليد الخالدي ونور مصالحة وشريف كناعنة ومؤرخين إسرائيليين جدد أمثال بني موريس وإيلان بابيه وآفي شلايم في تبيانهم جوانب جديدة في ما يتعلق بتهجير الفلسطينيين، فإنه اختتم مؤلفه الغني بالأدلة – المخرز حول إندماج يهود العراق في مجتمعهم، وفي أن الفرهود لم تستهدفهم لوحدهم فحسب بل شملت أيضاً غيرهم من سكان بغداد.
* صحافية لبنانية