الكاتب المغربي محمد براده يتطرق إلى جيل جديد لم يألف واقع الصراعات، فقرّر أن ينجو بنفسه من الشرك بالهجرة إلى فرنسا كحل بديل عن هذه الأزمات.
افراسيانت - ممدوح فرّاج النّابي - يَستعيد محمد براده في روايته الجديدة «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات» دار الآداب 2014، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية 2015، أحداثا سياسية مفصليّة مِن تاريخ المغرب، مازالت تمثّل علامة استفهام كبيرة، خاصّة في ظلّ البحث عن الهوية بعد الاستقلال، فالرواية بمثابة مراجعة تاريخية، وسياسية واجتماعية ونفسية، لمرحلة تمتدّ أكثر من خمسين عاما من تاريخ المغرب، منذ تشكّل حركات النضال والمطالبة بالاستقلال، مرورا بأزمة القنيطرة والصخيرات إلى أزمنة الرصاص في الثمانينات، لتقف في لحظة حيرة خاصة بعد نكسة اليسار في تسعينات القرن الماضي وصعود المدّ اليميني.
لا يعدم الكاتب الحيلة وهو الناقد المتَمَرّس الذي يصوغ النظريات السردية، ويختبر مقولاتها، في أن يذيب الصّرامة التاريخية للأحداث، عبر سرد تخييلي يعتمد على الوقائع التاريخيّة كمرجعية نصية ولكن بعد تذويتها، ومن ثمّ يلجأ الكاتب إلى حيلة تتمثّل في المؤرخ الرّحماني، الذي قَضى ثلاثين عاما بعد الاستقلال في حيرة يبحث ويستكشف، فيقرّر “أن يستنطق مَن لم يتكلموا عن هذه الفترة الحافلة”.
التفسخات والتشوهات
بنية الرواية تتشكّل من أربع شخصيات رئيسية، هي الراجي/ مساعد المؤرخ كنموذج على الواقع الآني، وشخصية توفيق الصادقي (1931)، الشاهد على فترة الاستعمار ثمّ ما تلاها من استقلال، وشخصية فالح الحمزاوي، المحامي والحزبي الشاهد على صراع الأحزاب والمخزن (الملك) وتبدّل الأيديولوجيات، منذ البداية يعيش على صراع اصطدام أحلامه مع ضآلة الوضع المادّي لأسرته. ثم تأتي الشخصية الرابعة الدكتورة نبيهة سمعان، صاحبة الصالون الأدبي والطبيبة النفسية، وهي شاهدة على مرحلة التفسخات والتشوهات التي أصابتِ المجتمع، وأصابتها هي نفسها، بما شهدته من فترة تحرّر وتمرّد على كافة التقاليد والقيم في المغرب تارة، وفي فرنسا تارة أخرى، وبدرجة أكثر توسعا جعلتها تتخذ من حادثة فض بكارتها مع رجياني الطالب الإيطالي حدثا تاريخيا يستحق التسجيل والاحتفاء، أثناء حصولها على الإجازة العلمية، لتعود خاوية الوفاض مهزومة بعد زيجتيْن قصيرتيْن، ثم تلجأ إلى عيادتها التي تستمع فيها لحكايات تداري فيها هزيمتها الشخصية.
الشخصيات الأربع يجمع بينها واقع المغرب وتحولاته، وصراع المخزن والأحزاب، والأزمات التي مني بها المغرب منذ الاستقلال، وهو ما أعقبه صراع الهوية، الذي لازم الجميع بدءا من الصّادقي الذي تربّي على النمط الاستعماري وانبهر مشدوها بما قدمته الحضارة الفرنسية، إلا أنه في ذات الوقت كان مشدودا عبر شخصية أمّه الشريفة للهويّة المغربية والتراث الإسلامي، بما كانت تقيمه من حفلات مدائح، وهو الفخ الذي سَقَطَ فيه عندما فاجأته ابنته فدوى برغبتها في الزواج من ميشيل الفرنسي، فمارس إكراهات على أسرته، وعلى ميشيل ذاته بطلبه الدخول في الإسلام، تتنافى مع ما اعتنقه من فكر ليبرالي استقاه من دراسته، فغلبت هويته الدينية هويته الثقافية.
بالمثل شخصية الراجي التي تقوم بدور الراوي، هي نموذج لحالة التردّي الاجتماعي والسياسيّ، فهو عاطل، ومشتبك بعلاقات نسائية متعدّدة، رقية، وسناء، والصيدلانية مجهولة الاسم، وإن كانت علاقاته النسائية تأخذ طابعا فلسفيا.
نجح الكاتب عبر إشارات عابرة وإن كانت متكرّرة في إظهار فداحة المأساة وحالات التمزق التي عاشها المجتمع إبان الصراع، من خلال علاقة الأشخاص بالنساء خاصة المتحررات، رقية/ سناء/ صوفيا/ لبنى/ نبيهة.
تشكل الحكاية
الرّاوي له حضور مميّز داخل النص، بل هو شخصية تتجاوز وظيفة الراوي فقط أو حتى منَسّق وَمنضّد لحركة السّرد، وزمنيتها، والرابط بين الشخصيات وببعضها البعض، إنه شخصيّة أساسية تعبّر عن الجيل الحديث الذي كان تأثير التحولات والتبدلات فيه عميقا، فصار مغتربا عن ذاته. ومن مهام دوره الذي أعلنه يفصّل لنا الراوي الأنا/ الراجي طريقة صوغه للحكاية وكيفية تشكيلها. ولا يكتفي بهذا، بل يتحدث عن البناء الزمني، حيث يعتمد على السّرد المتزامن الذي «يجعل الأحداث والوقائع والشخوص تجري وتتحدث في الآن نفسه».
واقع المغرب وتحولاته
في بنائه لشخصياته الثلاث “توفيق الصادقي (1931)، فالح الحمزاوي (1956)، نبيهة سمعان (1956)، يتخذ البناء السردي الخط الأوتوبجرافي، حيث السّرد يتحدّث عن النشأة والتكوين، ثمّ مرحلة التشكّل والصدام بالحياة السياسية أيام الجامعة، وحالة التحولات والأزمات التي أعقبتها الانفتاحات على الجنس والتحرّر. ثمة وعي من الراوي في التنوّع بين هذه الشخصيات من حيث خلفياتها الاجتماعية، وأيضا أيديولوجياتها، ليقدّم صورة موسّعة عن الفترة التي يتحدّث عنها، بصيغة أشمل وهو ما برّره في اختيار شخصية نسائية «كنت أفتش عن امرأة تضيء لنا هذه الفترة التي أوحت لي بكتابة هذه الرواية على ضوء ما جمعته من جذاذات ومعلومات لمشروع الأستاذ الرحماني».
يعطي الرّاوي مساحات سردية للشخصيات الثلاث لتعبر عن ذواتها، عبر السّرد الذاتي أو حتى بالتداعيات والمنولوجات، أو من خلال الأحلام كما في حالة نبيهة سمعان، أو بالحوارات التي تظهر اختلاف الرؤى. كما يبدو السّرد الذاتي أشبه بمراجعات فكرية لمواقف الماضي، وهو باد في شخصية نبيهة سمعان، وفالح الحمزاوي، أثناء عودته من الفندق في السيارة.
رغم هذه الاستقلالية التي تبدو عليها الشخصيات في سردها، من تخصيص لكلّ شخصية فصل مستقل، والفصل ينقسم إلى وحدات مستقلة مرقّمَة، لا تتجاوز الخمسة كما في شخصية توفيق الصادقي، إلا أن تدخلات الراوي واضحة، من خلال تعليقاته، أو توضيحاته «أظن أنني سأتوقف عند هذا الحدّ من روْي قصة توفيق الصادقي، مع أنني أعلم أن هناك تفاصيل أخرى لم أتطرق إليها.. لأن خبرتي الروائية محدودة لا تسعفني، أنا مساعد المؤرخ». وأحيانا في تمهيده وربطه بين الشخصيات كما حدث مع شخصية فالح الحمزاوي ونبيهة سمعان.
تتطرق الرواية إلى جيل جديد لم يألف واقع الصراعات، فقرّر أن ينجو بنفسه من الشرك، بالهجرة إلى فرنسا كحل بديل عن هذه الأزمات. تتناغم كتابة برادة في هذا النّص مع مقولاته الحداثيّة التي يتبناها في كتاباته النقدية، حيث ثمة تقطيع للمتن السّردي، رغم وجود الوحدات المستقلة، كما أن بنيات النص لا تكتمل إلا مع نهايته، بالإضافة إلى أن النص حاو لتعدّد خطابات مختلفة، تنهل من حقول معرفية وثيقة الصلة بالتخييل، مثل الخطاب التاريخي الذي تمّ تذويب صرامته التاريخيّة بالسّرد الأوتوبجرافي، والرّسائل (كرسالة والد ميشيل إلى توفيق الصادقي) وخطابات حزبية كخطاب حفيظ لمؤتمر الحزب أثناء سجنه، وهو ما يجعل النص مفتوحا على بنيات متعدّدة وهو ما أكّدته رحابة اللغة التي يمتح منها السارد بين لغة فصيحة رائقة، ولغة محلية، وضعها بين قوسين وببنط عريض مميّز، ولغة فرنسيّة في بعض المواقف، ومن ثمّ جعل النص وعاء حاملا لتعدّد لغويّ، أفرز خطابا متناغما ومعبّرا عن سياق تاريخي وثقافي ملتبس.