افراسيانت - وسيم ابراهيم - السفير - كان فضول المارة أمام فندق «إمبريال» في فيينا يحملهم على الالتحام بالحشد الإعلامي، مكررين السؤال: «ما الذي يجري هنا». باتوا يعرفون الآن أن عليهم الاعتياد على الزحام وسط عاصمتهم الهادئة، تلك التي لا أثر فيها لأزمة اللاجئين رغم كل ضجيجها على شاشات التلفزيون.
روزنامة مؤتمر «فيينا السوري» كانت مليئة بالشكوك والخلافات، لكن الواضح الآن أن ما يجري هو محاولة خلق إطار جديد للحل السوري، يتخطى إطار «جنيف واحد» السابق. عنوان هذا الجديد هو الاعتراف بمصالح إيران، يحجز لها مقعداً حول الطاولة الدولية لصوغ التسوية، بعد القبول بتحفظاتها على إطار «جنيف» الذي أقصيت عنه.
هذه الخلاصة أبرزتها طهران، ليعلنها وزير خارجيتها محمد جواد ظريف من موقع كاسب الرهان. حالما انتهى المؤتمر، شدد على أن مسعى «أولئك الذين كانوا يحاولون حل القضية من دون استشارة إيران، لم يؤدِّ إلى أي مكان»، قبل أن يعيد التأكيد على عبثية تجاوز مصالح بلاده لأنه «من المستحيل حل الأزمة من دون إيران».
كيف تمت مراعاة مصالح إيران والاعتراف بها؟ سؤال يأتي جوابه مباشرة من مقررات المؤتمر. صياغة الإطار الجديد أخذت بالاعتبار اعتراضات طهران، الحليف الأقرب للنظام السوري، على إطار جنيف الذي لم يجرِ التفاوض معها حوله. النقطة الإشكالية الرئيسية أن القيادة الإيرانية ترفض بناء التسوية على أساس أنها ترجمة فورية لخسارة النظام السوري، وبالتالي إقامة حكم جديد على هذا الأساس، بما يقتضيه من تسليم السلطة وتقاسمها.
مراعاة الرفض الإيراني لهذا المبدأ جاءت في إلغاء الخطوة الأولى في «جنيف واحد». الإطار المبدئي لمسار فيينا لم يعد فيه أي ذكر لـ «هيئة حكم انتقالية»، ينبغي نقل «الصلاحيات التنفيذية» إليها. تمت الاستعاضة عن ذلك بصيغة عامة، مطاطة، تقول إن على الأمم المتحدة دعوة النظام والمعارضة إلى «عملية سياسية تقود إلى حكم ذي مصداقية، شامل، غير طائفي». هذا يعني الإقرار ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد، مع فتح المجال أمام إشراك المعارضة، في حال الاتفاق، داخل حكومة وحدة وطنية.
لكن جوهر مسار فيينا يكمن في مكان آخر. يمكن تشكيل الحكومة، ويمكن تجاوز ذلك إذا استعصت، لأنها في النهاية لا ترسم معادلات الحكم الجديدة. عملية التفاوض حول حكم «سوريا المستقبل» تم وضعها في عهدة مرحلة صوغ الدستور الجديد، بما يعنيه من صوغ لشكل قيادة الدولة وتوازن السلطات فيها، قبل الذهاب إلى انتخابات تحدد الشخصيات التي ستملأ مواقع الحكم.
وصف ذلك بـ «جوهر» مسار فيينا ليس إلا ترجمة لما قاله من انخرط في الإعداد له، بعدما بات واضحاً أن خلاصاته كانت معدة سابقاً. قبل الدخول إلى صالات الاجتماع، كانت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فدريكا موغيريني تقول إن الجديد الذي يحملونه هو «أفكار ملموسة». وفّرت على المتابعين جهد تحديد مركز الأهمية، مشددة على أهمية خطوتين: دستور جديد ثم انتخابات.
في الأساس، كل مسألة تم الاتفاق عليها تحتشد داخلها الخلافات. طبعا مسألة الحكومة لا تزال مدار خلاف كبير، يهدد بجعلها خطوة يجب حرقها، كما أكد لـ «السفير» مسؤول غربي من دولة متشددة في الخصومة مع دمشق؛ ناقلاً اعتراضاتهم على فكرة الحكومة المشتركة، قال إنه «لا يمكن تشكيلها من دون نقل للصلاحيات، ستكون شيئا فارغا إذا بقيت الصلاحيات كما هي بيد الأسد»، قبل أن يضيف إن «القضية يساوم عليها الروس» لجهة أية صلاحيات يمكن نقلها وتلك التي يجب أن تبقى في هذه المرحلة بيد الرئيس السوري.
وفقا للجدولة الزمنية المعلنة، يفترض أن يشهد منتصف الشهر الحالي عودة الوفود، ممثّلة 16 دولة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. حتى يحين ذلك، سيتواصل العمل على مستوى الموظفين من أجل «تضييق مساحات الخلافات الباقية والبناء على مساحات الاتفاق». لن يشمل ذلك، كما بات واضحاً، التعاطي مع «السؤال الكبير» المتعلق بمستقبل الأسد، كما قال مسؤول غربي ممن سيتولون مهمة التحضير لاجتماع فيينا المقبل، رغم إقراره بصعوبة ذلك لأن «كل شيء تقريبا يقود في النهاية إلى السؤال حول مصير الأسد».
الجانب القطري كان الوحيد الذي غادر الفندق خلال المداولات، في حركة بدت أنها تعكس حاجته إلى التشاور مع الدوحة. خرج وزير الخارجية خالد العطية يخطو خلفه أعضاء وفده، لينتقل إلى مقر إقامتهم في فندق مجاور قبل أن يعود بعد قرابة النصف ساعة.
كان يفترض أن ينتهي المؤتمر الواحدة والنصف ظهراً، لكنه لم ينتهِ قبل أن تتجاوز الساعة الخامسة. حين كان الصحافيون يراقبون ساعاتهم، وهي تعدّ ساعة تأخير بعد أخرى، كانت محاولات خصوم دمشق جدولة رحيل الأسد تلقى رفضاً صارماً من حلفائها. أحد المسؤولين خرج من الصالة ليقول إن أحد أبرز جوانب الخلافات دار حول «من يمتلك التفوق الآن، النظام أم المعارضة، ومن يملك الأفضلية لطرح الحل».
مسؤول رفيع المستوى كان داخل الاجتماع، أكد لـ «السفير»، أن خصوم دمشق عرضوا «أن يعطى لوضع الدستور فترة ستة أشهر، وأن يعطى أمام إجراء الانتخابات فترة سنة ونصف السنة»، معتبراً أن حلفاء دمشق اعتبروا ذلك بمثابة «مهلة للنظام» غير مقبولة.
مصدر روسي أكد هذه الحيثية خلال حديث مع «السفير». قال: «تلقينا هذه الأفكار من واشنطن»، في إشارة إلى أنه طرح متداول قبل المؤتمر، معتبراً أن «أي مهلة زمنية أمر غير مقبول، حتى في إطار جنيف لم يكن هناك حديث عن مستقبل الأسد، مجددا الأمر متروك ليقرره الشعب السوري».
رغم ذلك، بعض المنخرطين في المداولات يتعاملون مع صرامة الموقف الروسي على أنه «مناورة طويلة»، وفق تقديرات ديبلوماسي غربي رفيع المستوى. خلال حديث مع «السفير» على هامش الاجتماع، قال راسماً الصورة الإجمالية لما يحدث «كما يحدث في أي لعبة، كل لاعب يريد أن يظهر أن أوراقه لا تزال صالحة وقوية. التدخل الروسي جاء في هذا السياق لتقوية ورقة الأسد»، قبل أن يضيف: «كلما صارت ورقتهم قوية كلما كان ثمن التنازل عنها أكبر. الأميركيون يفعلون الشيء ذاته تماماً الآن، هم يقولون أيضا أن هناك معارضة معتدلة وهي لا تزال قوية وقادرة على تغيير المجريات في الميدان».
المصدر يرى أن التمسك بالأسد «ليس إلا مسألة تكتيكية» من روسيا، فيما يعتبر أن هدف إستراتيجيتها تحقيق ثلاث قضايا أساسية: «أولاً أن يتم الاعتراف بها كلاعب دولي مهم، يجلس على الطاولة ليقرر الحلول، ثانيا الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في سوريا، نفوذها الذي يحفظ وجودها العسكري هناك، وثالثا هناك محاربة الجهاديين الذين يمكنهم تشكيل خطر عليها».
الواضح أن الخلافات، المساومات وسقوفها، تدور حول «الجدول الزمني لدور الأسد». مسؤول غربي كان في عداد وفد بلاده، غير الصديق لدمشق بطبيعة الحال، علق بالقول: «يجب أن نضمن منذ البداية أن العملية الانتقالية ستقود إلى مغادرة الأسد، يجب أن يكون واضحا أنه لن يكون هناك حين تنتهي».
موسكو وطهران تتمسكان بمبدأ ترك الحسم لصناديق الاقتراع. قضية إجراء الانتخابات لا تزال إشكالية، رغم أن مسار فيينا أكد على إمكانية عقدها وإشراك سوريي «الشتات» فيها. حين سئل المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا عن الصعوبات، قال إن الانتخابات «يمكن إجراؤها في سوريا»، محاججاً بأنه شخصيا كان ممن أشرفوا على الانتخابات في العراق وفي «أفغانستان المضطربة».
ورغم إقراره بأن تحديد مصير الأسد يشكل استعصاء، لفت إلى مفصلية ولادة مسار فيينا. وقال إنه مسار يمثل «بداية الخروج من الأزمة السورية»، معتبراً أنه «في كل الأزمات هناك مفترق حين يفهم جميع المنخرطين أنه لا يمكننا أن نكمل هكذا».
وأكد هذه النقطة وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، خلال مقابلة سابقة مع «السفير». وقال، عند مغادرته المؤتمر، إن «المرحلة المقبلة هي للحل السياسي، والحل السياسي وحده، لأن السنوات الخمس الماضية أثبتت أن الشعب السوري عاش معاناة متواصلة». لكنه في الوقت ذاته حرص على مقاربة واقعية، معتبراً أنه «لا شيء يحدث بزر كهربائي، حتماً يحتاج الأمر إلى جهد، نحن أمام أزمة سياسية متراكمة امتدت لما يتجاوز الخمس سنوات. حتماً لا أقول إن زمن العلاج يساوي زمن المشكلة، لكن بالتأكيد هناك تناسب بين الزمنين».