افراسيانت - ابراهيم الأمين - في طبيعة الصراع العسكري والأمني الذي شهدته سوريا، خلال السنوات الماضية، تعرّضت الدولة السورية وجيشها لإصابات بالغة نالت من قدرات جيشها على أكثر من صعيد. لكن بعض القطعات، وتحديداً منظومات الدفاع الجوي والقوة الصاروخية، كانت أقل تضرراً. إذ إن نوعية المعارك التي خاضها الجيش ضد المجموعات المسلّحة لم تتطلب استخدام هذه القطعات. ورغم أن العدو حاول استغلال الوضع في سوريا لتوجيه ضربات لدمشق وحلفائها في محور المقاومة، ونفّذ ضربات قاسية، إلا أنها لم تكن من النوع الذي يهدد بنيةً استراتيجية قائمةً في سوريا منذ زمن بعيد، وتعززت بقوة لافتة بعد عدوان 2006 الذي استخلصت منه القيادة العسكرية السورية الكثير. فتعاونت مع قيادة المقاومة في لبنان لإدخال تغييرات في البنية العسكرية للجيش، ربطاً بالدور الاستثنائي للقوة الصاروخية في مواجهة التفوق الجوي للعدو، وبتعزيز بنية الدفاع الجوي لضرب أقوى أذرع العدو العسكرية في الحروب.
لا يحبّ خصوم دمشق، ولا خصوم النظام والرئيس بشار الأسد، الكلام عن «إرادة المواجهة» الحقيقية الموجودة في دمشق. يتصرف هؤلاء، طوال الوقت، على قاعدة أن سوريا تستغل المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق لتحقيق مكاسب سياسية، ويرفضون الإقرار ــــ من دون منطق وبحقد كبير ــــ بأن دمشق دفعت الكثير جراء دعمها لقوى المقاومة، ورفضها توقيع اتفاق سلام مع العدو، ومواجهتها القاسية للسياسات الأميركية بعد غزو العراق عام 2003. وقد وصلت الضغوط إلى مستويات غير مسبوقة مع اندلاع الأزمة في سوريا، وتحشيد كل العالم لإسقاط النظام ومعاقبته على هذه المواقف. في كل هذه المراحل، بما فيها ذروة الحرب على سوريا، لم تضعف إرادة قيادتها في المواجهة. وكان للمبادرات الميدانية للحلفاء في محور المقاومة دور كبير في تعزيز صمود سوريا ومساعدتها على تحقيق انتصارات، جعلتها بعد سبع سنوات تلتقط الأنفاس قبل استعادة كامل سيطرتها على الأرض.
اليوم، يسقط المسلحون وقوى المعارضة في الميدان، ولدى الجمهور. بالتأكيد، ما من أحد يتوقع اليوم تحولاً عاماً في مزاج الشعب السوري يجعله كله الى جانب النظام. لكن الإحباط والهزيمة تمكّنا من غالبية ساحقة من الجمهور المعارض للنظام. وكل سياسة إصلاحية من جانب الدولة ستفقد الخارج أي تأثير جدي على الشارع السوري. وهذا ما ينعكس بوضوح في تصرفات قوى وجهات وحكومات لعبت بدماء السوريين. هؤلاء لا ينتظرون، اليوم، الإشارة الغربية للتحرك، بل يبحثون عن الشكل المناسب للعودة الى دمشق. ولا يبدو أن الضغوط الأميركية، المتعاظمة هذه الأيام، ستعطل البرامج الاستراتيجية لهذه القوى والحكومات والدول.
في المقابل، هناك طرف واحد، هو إسرائيل، لا يمكنه التعايش مع النتائج القائمة على الأرض. يدرك العدوّ أن أمنه القومي كان أبرز أهداف الحرب على سوريا، وأنه كان يعوّل على حصاد هذه الحرب، ليس في سوريا فقط، بل في لبنان وفلسطين. وفي الموازاة، فإن تل أبيب، الأكثر معرفة بطبيعة الهزيمة التي مني بها الغرب وأنصاره في المنطقة، تدرك تماماً واقع الأمر في الميدان السوري اليوم. لذلك، تتصرف ــــ عن وعي ــــ بأن فشل كل ما خُطّط له يفترض تحركاً سريعاً لمنع انتقال الهزيمة الى أماكن أخرى في المنطقة والعالم. وهدف إسرائيل اليوم واضح: ممنوع عودة سوريا القوية.
لكن، في المقابل، يعرف العدو جيداً أن القيود باتت أكبر وأصعب، وأن «التشاطر» على التوازنات التي كانت قائمة لم يعد متاحاً كما في السابق. وحتى روسيا التي لا تتبنى أطروحات محور المقاومة حول إسرائيل، ليست قادرة على مساعدة إسرائيل بالقدر الذي تريده تل أبيب. بل على العكس من ذلك، فاستعادة سوريا قوتها تفرض على موسكو حمايتها أكثر مما فعلت خلال المواجهات العسكرية ضد الجماعات المسلّحة. وهذا، في حد ذاته، عنصر قلق للعدو. فأركان الاستراتيجيات العسكرية والأمنية والسياسية في إسرائيل يعرفون تماماً أن القيادة السورية، التي تعطي هامشاً واسعاً لحلفائها في الحرب على الإرهاب، هي من يتحكّم بالقرار ولا تترك الأمور تفلت من يدها، وأن لدى هذه القيادة ثوابت حاسمة، من بينها مواجهة إسرائيل ودعم حركات المقاومة ضدها.
عملياً، لا يجب البحث عن مستوى الحافزية لدى العدو لشن حرب مدمرة ضد سوريا، لأنه في أعلى درجاته. ولا يجب البحث عن قدرات العدو التدميرية في حال شنّه حرباً ضد سوريا أو لبنان، لأن هذه القدرات كبيرة. كما لا ينبغي تضييع الوقت في البحث في نوع الذرائع التي يحتاج إليها لشن هذه الحرب، لأنه قادر على توفيرها. لكن، في المقابل، على العدو بذل جهد كبير للبحث في نتائج مثل هذه الخطوات، وجهد أكبر لوضع تقديرات دقيقة للواقع سياسياً وعسكرياً. ومشكلة إسرائيل الرئيسية، اليوم، تكمن في «مساحة اللايقين» المتعاظمة إزاء ما يمكن أن يقدم عليه محور المقاومة في حال الحرب. وهنا بيت القصيد.
في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين»، انتظر كثيرون، لدى العدو وفي صفوفنا، أن يركز السيد حسن نصر الله على ملف الأنفاق الحدودية. مجرد هذا الانتظار يشكل دليلاً إضافياً على استمرار جهل الغالبية من أعداء المقاومة وأصدقائها منظومة التفكير لدى المقاومة، وهذا يُسجّل للمقاومة بخلاف ما يعتقد كثيرون. النقطة الرئيسية في الحديث كانت جردة حساب مع العدو حول حقيقة التطورات في سوريا. فهناك أصل الحدث ومركز المواجهة الحقيقية التي تؤثر على صورة المنطقة ككل. لا يعني ذلك أن جبهة لبنان غير ذات أهمية، لكنها ليست الجبهة التي يحاول العدو الإحاطة بها. أولوية العدو اليوم هي منع تشكل «أرضية صلبة للمقاومة في سوريا»، ليس لأنها تشكل عنصر تهديد أكثر خطورة من جبهة لبنان، بل لأنها تفتح الأفق على مستوى جديد من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، حيث تكون لفلسطين حصة الأسد، وحيث يبدأ الحديث عن فتح حدود جديدة أمام المقاومين المنخرطين في ورشة بناء قوة وجيش سيهزم إسرائيل من دون أدنى شك!
لذلك، يمكن فهم ارتفاع منسوب المخاطر في تل أبيب، منذ اتضاح ملامح التغيير الاستراتيجي على الساحة السورية لمصلحة النظام وحلفائه. تدرك القيادات السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل أن اتجاه محور المقاومة نحو الانتصار سيحرره نسبياً من قيود عدم الرد على اعتداءاتها. وقد تعزّزت هذه المخاوف بعد زيادة وتيرة التصدي السوري للغارات وإسقاط طائرة «اف 16» في شباط 2018، وما تلا ذلك من «صدام» ليلة الصواريخ في أيار 2018، وصولاً الى الإرباك الذي أصاب العدو بعد سقوط الطائرة الروسية في أيلول الماضي.
وبالتالي، فان التحدي الأبرز أمام العدو هو النتائج الضعيفة لغاراته في منع إعادة بناء قدرات سوريا العسكرية وتطويرها وفي منع التمركز الإيراني. وهو يعترف اليوم بأنه لم ينجح في ردع أي من أطراف المقاومة، وتحديداً إيران، عن بناء القدرات الصاروخية في سوريا وتطويرها. وقد بدأ يترسخ في وعي أعلى المستويات في إسرائيل، العجز عن إخراج إيران من سوريا، ولا سيما بعد فشل محاولة ربط الوجود الأميركي بالوجود الإيراني.
على أن التحدي الراهن يتعلق بتصاعد سياسة التصدي السوري للاعتداءات الإسرائيلية، ووجود مؤشرات قوية على أنه قد يأخذ لاحقاً أشكالاً مختلفة ومستويات أعلى. وهذا يعزز فرضية تدحرج المناوشات نحو مواجهة لا يريدها ابتداءً أيٌّ من الأطراف، بما فيهم إسرائيل.
ويبدو أن إسرائيل تحاول أن توجه رسائل مضادة وتفرض معادلات جديدة عبر رفع منسوب اعتداءاتها وتوسيع نطاقها كجزء من محاولات تعزيز ردع النظام السوري، كما في اعتدائها الأخير على دمشق. وعلى هذه الخلفية، أتى تحذير السيد نصر الله لنتنياهو بألا يخطئ في التقدير لأن الثمن سيكون الذهاب نحو مواجهة واسعة، ثبت بالتجربة العملية أن إسرائيل حريصة جداً على تجنبها حتى الآن.
رغم ذلك، فإن إسرائيل لا يمكنها التصرف بحيادية مع ارتفاع وتيرة تعاظم القدرات السورية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتنامي قدرات حلفاء دمشق في سوريا وخارجها. والعدو يدرك تماماً الموقع الجوهري لسوريا في قلب محور المقاومة. ولعلّ من المهم، هنا، التوقف عند «معلومة» أدلى بها السيد نصر الله خلال حديثه لـ«الميادين»، عندما تحدث بثقة عن أن محور المقاومة «أصبح في أحسن حال. هذا متغيّر يجب على نتنياهو ومجموعته أن ينتبهوا له. هذا متغيّر كبير ومهم جداً. أنا أعرف ما في سوريا، وأعرف الوضع النفسي والمعنوي واللوجستي والميداني والإمكانات. الوضع بات مختلفاً تماماً عمّا كنّا عليه في عام 2018، فضلاً عن 2017 و2016».
عملياً، لا يحتاج المرء الى تمرين ذهني كبير ليستكشف السيناريوات المحتملة أمام إسرائيل، وخصوصاً أمام اتساع مساحة «اللايقين». الأرجح أن يجد العدو نفسه أمام خيارين: إما الذهاب نحو مواجهة واسعة كبرى ستُدفع فيها أثمان كبرى، أو السعي للتوصل الى معادلة ما ــــ عبر روسيا ــــ مع الإدراك بأن موسكو ستأخذ في الحسبان ثوابت إيران وحلفائها في سوريا ولبنان. وما بينهما قد تسعى إسرائيل الى محاولة تكريس المعادلة القائمة التي تسمح لها بمواصلة اعتداءاتها مع قدر الاتساع المضبوط. لكن هذا يبقى سيناريو محفوفاً بمخاطر تدحرج نحو تصعيد يؤدي الى السيناريو الأول، فضلا عن أن هذا المنسوب ثبت حتى الآن أنه لم يعد يحقق الأهداف المنشودة إسرائيلياً.
(الاخبار اللبنانية)