افراسيانت - يتصاعد مع اقتراب موعد اعتراف فرنسا ودول أخرى بدولة فلسطينية مستقلة ضمن ما يسمّى حلّ الدولتين، الذي أعادت الجمعية العامة للأمم المتّحدة التذكير به قبل يومين، سجالٌ داخل معسكر الداعمين للقضية الفلسطينية بين المرحّبين بالقرار والمشكّكين بأهمّيته على اعتبار أن إسرائيل ترفضه، وهي جعلته في أي حال مستحيلاً على الأرض.
والحقّ أن السجال يستحق التوقّف عنده من منطلقين: منطلق الواقع الميداني اليوم وارتباطه بالقانون الدولي وسبل التعامل معه، ومنطلق الأفق السياسي أو المآل «الأخير» الذي يصعب تخيّل مستقبل إنساني بلا هوّيات منغلقة ومتصارعة من دونه.
في ما يخصّ المنطلق الأول، يذكّر البعض بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بحسب القرار الأممي 242، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، تتعرّض لحرب إبادة معلنة من جهة، ولعمليات استيطان وضمّ وطرد سكّان من جهة ثانية، بما يجعل قيام أي دولة فيها متعذّراً.
يضاف إلى ذلك أن القرار 194 القاضي بحقّ العودة والتعويض للفلسطينيين المطرودين ممّا صار إسرائيل العام 1948 مرفوض إسرائيلياً بالكامل.
وبالتالي، فإن أي اعتراف بكيان سياسي فلسطيني فوق أرض مهشّمة وممزّقة ومحتلة وممنوعة عودة أبنائها وبناتها إليها ومتعذّر التعويض عليهم بعد سرقة أملاكهم، يُعدّ اعترافاً رمزياً لا إمكانية لتحويله إلى حقيقة في ظل موازين القوى الراهنة وفي ظلّ الدعم الأمريكي غير المشروط لتل أبيب. لا بل يظنّ هذا البعض أن الاعتراف المتأخّر هو تعويض عن عدم أخذ المواقف المطلوبة من الجرائم الإسرائيلية وتهرّب من تنفيذ عقوبات عليها وزعم باحترام إرادة الفلسطينيين من دون تحويل ذلك إلى ما يفرض تجسيد هذه الإرادة مادياً.
على أن الكلام المذكور، على وجاهة جوانب من منطقه، ويمكن أن يضاف إليه التشكيك بشكل الاعتراف نفسه نظراً لما فيه من شروط واستثناءات، لا يستقيم من دون توضيح أمرين. الأول أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية بجميع مكوّناتها. ولا يمكن أصلاً لحركة تحرّر وطني تكافح من أجل الاستقلال والعيش فوق أرضها أن ترفض الاعتراف بالدولة التي قاتلت في سبيل إقامتها بمعزل عن الكثير من الملابسات.
وبالتالي فالاعتراف هو مطلب ينبغي التمسّك به، وهو مستند إلى القانون الدولي الذي يدافع عنه الفلسطينيون وحلفاؤهم في مواجهة إسرائيل ودعم أمريكا لها. والثاني، أن الدعوة إلى فرض عقوبات ضد تل أبيب وملاحقة مسؤوليها لارتكابهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وصولاً إلى جريمة الإبادة الجماعية لا تتعارض مع مبدأ الاعتراف، لا بل يجب أن تكون الخطوة الموازية وأن يكون التركيز عليها هو الأساس في المرحلة المقبلة.
أما في ما هو أبعد من السجال حول فائدة الأمر وضرورته اليوم، أو في ما يخصّ المنطلق الثاني، أي أفق المسألة الفلسطينية، فيجدر القول إن حل الدولتين المتعذّر ميدانياً اليوم، والمطلوب في نفس الوقت سياسياً وحقوقياً/ قضائياً لتكريس مبدأ الكيانية الفلسطينية ولتحريك المزيد من الدعاوى الدولية ضد إسرائيل، ما هو إلا محطّة في مسار طويل ومستمرّ يمكن أن يتبدّل ويتعرّج ويمكن أن يتحوّل يوماً إلى قاعدة للبحث في دولة واحدة لكلّ المقيمين فيها على قاعدة المساواة والديمقراطية، بما يشكّل طعناً بفلسفة الدولة الصهيونية ومشروعها لمحو الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم.
وهذا الكلام الذي يبدو ضرباً من الخيال في الظروف الراهنة، لن تجعله مذابح إسرائيل ورفضها القبول بدولة فلسطينية بحدّها الأدنى سوى شكل الحل الوحيد في المستقبل. ذلك أننا نتّجه في أي حال في ظل الضمّ والتهجير والتدمير والاقتلاع إلى دولة واحدة، لكنها «دولة التمييز العنصري»، بحسب محكمة العدل الدولية وبحسب منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية. والتمييز العنصري هو جريمة ضد الإنسانية كما حدّدتها الاتفاقيات الأممية الخاصة بشأنه العام 1973، في عز الكفاح الجنوب أفريقي ضد نظامه يومها، حليف الإسرائيليين الأوثق.
ولن تتمكّن إسرائيل من تعديل الأمر عبر مشاريعها للتغيير الديموغرافي، ذلك أنها مهما قتلت وهجّرت، لن تُفلح في «القضاء» على 5 ملايين فلسطيني في القدس والضفة وغزة (يضافون إلى مليوني فلسطيني داخل إسرائيل). ومهما استمرّ الدعم الأمريكي الرسمي لها، فإن العمل الجاد لعزلها ومقاضاتها، بما في ذلك داخل دول غربية والتها منذ نشأتها، لن يبقى محصوراً في الأوساط الأكاديمية أو الفنية والنخبوية الأخرى.
صارت له في النروج والسويد والدانمارك وإيسلندا، وفي بلجيكا وإيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا واليونان واسكتلندا، وصولاً إلى فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وهولندا، قوى سياسية رئيسية تحمله، مدعومة بنقابات ومؤسسات مجتمع مدني وبشرائح واسعة من الرأي العام. والأمر مرجّح للتصاعد في المرحلة المقبلة، خاصة أن الحرج من الصمت أمام فظائع إسرائيل في غزة، بدأ يصيب هيئات الاتحاد الأوروبي الرسمية، وهو سيشجّع بلا شكّ منظمات الأمم المتحدة ولجانها على أخذ المزيد من المواقف «التصعيدية»، حتى ولو صعّبت أمريكا ترجمتها إلى إجراءات دولية حاسمة.
وهذا يحيلنا إلى العقدة الأمريكية التي ما زالت عنصر العرقلة الأول لكل ضغط جديد وعقوبات ضد إسرائيل. وما زالت أيضاً، عنصر تمكين إسرائيل من التفوّق العسكري ومن إدامة حروبها واستمرار الحصول على الذخائر والتكنولوجيا الأكثر تطوّراً، التي لا تفوّق من دونها.
والعقدة هذه ليست في طريقها إلى اللين، ولا يبدو أن حظوظ تغيير مواقف أمريكا قائمة في السنوات المقبلة. لكن المسألة هناك جيلية أيضاً. ومعظم استطلاعات الرأي والدراسات تشير إلى تبدّل كبير في المواقف لدى الجيل الجديد – الجامعي بخاصة – تجاه إسرائيل.والأرجح أن هذا هو أكثر ما يقلق تل أبيب وحكومتها الحالية، ويدفعها إلى تسريع وتيرة العنف والحروب والسعي إلى تعميم الفوضى في المنطقة كلّها وتوسيع دائرة المواجهات كي تتراكم الملفّات الصراعية والحربية وتحجب الموضوع الجوهري: فلسطين.
نحن إذاً أمام لحظة جديدة، تتولّد وسط ركامها وأشلاء ضحاياها ديناميّات سياسية وحقوقية، متأخّرة طبعاً، وقاصرة حتى الآن أمام هول المعاناة وحجم الخسارة، لكنها مقبلة على تحوّلات وتطوّرات قد تناقض سياسياً مؤدّيات المجازر الإسرائيلية وخطط «الحلّ النهائي» التي يدفع باتجاهها بنيامين نتنياهو ووزراؤه الفاشيون.