افراسيانت - جواد بولس - تشهد المنابر العالمية في الآونة الأخيرة، تنامياً حادّا في أعداد الأصوات المنددة بسياسات حكومة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وحِدّة في لغة شجب ممارسات جيشها وجرائمه، سواء في غزة، أو في الضفة الغربية المحتلة. وتكثّفت الإدانات على مختلف المستويات الشعبية والرسمية والمؤسساتية والدينية والاقتصادية، حتى غدونا نشعر بأن العالم يشهد تحوّلا نوعيا في مواقف عدةٍ بُنى اجتماعية واقتصادية وسياسية وازنة، وداخل العديد من مراكز القوى، التي كانت تتجنب سابقا المساس بسمعة إسرائيل أو انتقادها بالمرة.
على المستوى السياسي الرسمي تواجه حكومة إسرائيل طوفانا من بيانات التنديد ومطالبتها بوقف حربها الوحشية؛ وقد أعلنت بعض تلك الدول، كردة فعل على التمادي الإسرائيلي، أنّها ستعترف بالدولة الفلسطينية؛ بينما بقي بعضها في موقع الحليف الاستراتيجي، وفي المقدمة تقف أمريكا أهم تلك الدول وأقواها؛ وقايضت دول أخرى مصالح أنظمتها بالدم الفلسطيني، دافعين صمتهم عن الجرائم «إتاوات» وعَرَابين ائتمان وضمانات لاستقرار بلادهم.
ورغم التفاوت في المواقف والاختلافات، نرى أن ما يميّز المشهد العام هو ذاك الاصطفاف السياسي الدولي الواسع وغير المسبوق، وراء التنديد بالحرب ووحشيتها. لن أعدد أسماء تلك الدول وهي كثيرة، لكنني سألفت إلى موقف الوزراء الهولنديين الذين استقالوا من الحكومة احتجاجا على موقفها من الحرب على غزة، وكذلك لموقف رئيسة حكومة إيطاليا اليمينية جورجيا ميلوني، التي وجهت انتقاداتها لاستمرار الحرب، ودعت الى وقفها وندّدت بقتل جيش الاحتلال للصحافيين الأبرياء. وأشارت، في موقف لافت صادر عن قيادية يمينية حليفة لنتنياهو ولليمين الإسرائيلي، الى ضرورة وقف التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية.
بخلاف مواقف الحكومات الرسمية، ستبقى مشاهد الاحتجاجات الشعبية الجبارة، في العديد من دول العالم شهادات على صحوة ضمائر تلك الشعوب، وانتقالها للوقوف على ضفة التاريخ المضيئة؛ وستُذكر كعلامة فارقة على صحوة تلك المجتمعات وخروجها من حالة «العمى» غير الطبيعية التي استحكمت في مصير منطقتنا وأبقتها لأكثر من مئة عام في الظلمة والظلم.
رغم التفاوت في المواقف والاختلافات، نرى أن ما يميّز المشهد العام هو ذاك الاصطفاف السياسي الدولي الواسع وغير المسبوق، وراء التنديد بالحرب ووحشيتها.
يشعر الكثيرون بأن هذه الحرب ومشاهدها المروّعة أفضت إلى نسف أو خلخلة أبرز منتجات الحرب العالمية الثانية، وتخصيصها اليهود «كضحية النازية الوحيدة المطلقة»؛
ويعززون مشاعرهم بمشاهد أنهر البشر المتدفقه في العواصم والمدن في أوروبا وفي العالم، مؤكدين أن ما نراه هو انعكاسات لتحرر خفي تعيشه شعوب أوروبا، أو شرائح واسعه منها، ومن بناها الاجتماعية والسياسية القديمة، من»عقدة الذنب»، التي عاشوا تحت تأثيرها، وأثّرت على تحديد مواقفهم تجاه إسرائيل وأفعالها منذ نكبة فلسطين الأولى، وحتى بدايات نكبتها الحالية، التي ما زالت قيد الفعل والإنجاز.
لا تقتصر التغيرات على المشهد السياسي وحسب، فالتحرّكات اللافتة في مجالي التجارة والاقتصاد، ليست أقل زخما وتأثيرا. وقد يكون قرار صندوق التقاعد السيادي النرويجي، الذي يعدّ الأكبر عالميا، سحب جميع استثماراته من البنوك والشركات التي تساهم في تزويد ودعم جيش الاحتلال، مفاجئا، ومن أبرز هذه القرارات. لم يحمل قرار سحب الاستثمارات، التي قُدّرت قيمتها بنحو ملياريّ دولار، بُعدين، ماديا وسياسيا، وحسب، بل كان سابقة وإشهار موقف أخلاقي صارخ عبّرت فيه النرويج عن رفضها للاحتلال وسياسة إسرائيل العدوانية.
لم ينفرد الصندوق النرويجي بقراره المتحدّي لقوة إسرائيل ولمكانتها في الأسواق المالية العالمية، فقد لحقته صناديق استثمار أخرى في النرويج، وفي عدة دول أوروبية؛ ورافقته، في هذه الدول وفي غيرها، دعوات مؤسسات ونقابات مهنية كبرى لمقاطعة إسرائيل اقتصاديا وأكاديميا وثقافيا، كوسيلة للضغط على حكوماتها لوقف الحرب والاستيطان.
وتحت سماء أخرى سمعنا، قبل بضعة أيام، دعوة البابا ليو الرابع عشر، الذي يقف على رأس أكبر كنيسة في العالم، إلى وقف إطلاق نار دائم في غزة، وإنهاء عقاب أهلها الجماعي، ووقف عمليات تهجيرهم القسري. بتصريحاته المتعاقبة أكد البابا الحالي تمسكه بمواقف البابا الراحل فرنسيس، وأوضح مجددا موقف الفاتيكان الثابت والداعي إلى احترام مبادئ القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، فيما يخص حقوق الفلسطينيين، إلا أن تصريح البابا يبقى كلاما لا يتعداه إلى خطوات عملية فاعلة ومؤثرة على الأرض.
يمكنني أن أضيف وأشير، من باب التفاؤل، إلى مواقف المؤسسات الحقوقية العالمية التي تُجمع هيئاتها على إدانة المسؤولين في حكومة إسرائيل بتنفيذ جرائم حرب مروّعة، وتطالب بملاحقتهم وبمقاضاتهم جنائيا؛ ويمكنني أيضا أن أستعين بأصوات آلاف الأكاديمين والمثقفين والشخصيات العالمية الاعتبارية البارزة في مجتمعاتها الواقفين الى جانب الضحية/ فلسطين، وضد جرائم إسرائيل وعدوانها؛ ويمكنني أن أؤكد أهمية اتساع صفوف المعارضة لسياسة حكومة نتنياهو داخل المجتمع اليهودي، في إسرائيل وخارجها، ويمكنني أن ألجأ لدعوة 150 من علماء المسلمين، الذين يجتمعون هذه الأيام في إسطنبول لنصرة غزة، ومن أجل «بناء تحالف إسلامي متماسك يواجه سياسات الاحتلال الإجرامية، ويمنع تكرار المجازر»، ويأملون: «أن يتحول مؤتمر إسطنبول من مجرد تجمع رمزي إلى منبر عالمي، يؤكد أن غزة مسؤولية الأمة والإنسانية وأن نصرتها واجب لا يحتمل التأجيل».
يمكنني أن أصوم معهم وأدعو وأبكي.. لكنني سأتوقف هنا كي أعود إلى فلسطين والى همومها؛ فبعض الناس فيها يشعرون بأن ما حصل في السابع من أكتوبر 2023 وما تبعه من فصول، ما زالت تتداعى أمامنا دمارا وقتلا وتشريدا، قضى على أو مزق ما تبقى من حلم إقامة الدولة الفلسطينية الوطنية الديمقراطية. ويسأل أهل هذا الفريق، لماذا لم ينجح العالم المسيحي من جهة، والأمة الإسلامية من الجهة الأخرى، لغاية اليوم من بناء «تحالف متماسك» وقادر على نصرة وإنقاذ فلسطين من الموت والدمار؟
أو لماذا لم ينجحوا في إنقاذ طفلة فلسطينية واحدة من الموت جوعا، أو قتلا بصاروخ طيار إسرائيلي؟
ولماذا، رغم كل الزخم العالمي المؤيد لغزة والدعم، لم ينجح هذا العالم في إيقاف آلة الحرب والدمار الإسرائيلية ووقف المجازر، لماذا؟
لأننا نعرف حكايات «ازدواجية المعايير» و»الحكمة في موازين القوى» و»ألعاب العروش والمصالح»، وأسطورة اسمها «الشرعية الدولية»، ونعرف أيضا ألا رفعة لحكم الأخلاق في السياسة، وفي الحروب على الأوطان.
ونسأل، لماذا لم تنل فلسطين حقها، ولماذ تدفع غزة فاتورة الدم النفيس؟
هذا لأن أمريكا، مذ ورثت تاج «المملكة العظمى»، صارت هي «سلطان الشرق المفدّى» بعد أن كانت «راعية البقر» «وصيادة الهنود» و»أزعر الحارات» الذي لا يخجل ولا يرحم. ولأن «أمة الإسلام» لا تدين بإسلام واحد، ولا بخليفة واحد، ولا بسيف واحد؛ فلمصر إسلامان وأكثر وعندها «أزهر» يطلق الرأي، وعدا لغزة ورعدا، فيجفل المفتي ويندم. ولإسطنبول إسلام وخليفة وعلماء يتنادون بعد سنتين من تقطيع أوردة غزة وشرايينها، ليعلنوا «أن غزة هي مسؤولية الأمة»، وليُفهمونا: ما العامان في عمر أمة يذبح مذ فجر إسلامها أبناؤها على مذابح الخلفاء، وسلاطين يدعوا علماؤهم «لأندلس إن حوصرت حلب».
ولأن فلسطين لم تبرأ من أمراضها ولم تتعلم من مصائبها السابقة، فصراع العشائر ما زال مستعرا تحت أسماء جديدة، والاقتتال على المرجعيات والشرعيات كان خطيرا وصار عبر السنين أخطر، والتشتت بين الولاءات اشتد بين خوارج وموالين، حتى أصبحت غزة إمارة تقاتل وتُقتل وحدها.
يعيش شرقنا أياما صعبة وتواجه شعوبه مصائر مجهولة.. مخاضات الحاضر مفتوحة على جميع المآلات والاحتمالات، والشيء الوحيد المؤكد هو أن ما كان لن يكون؛ فنحن أمام بدايات جديدة، أو ربما نهاية بدايات وخيمة.
كاتب فلسطيني