افراسيانت - تقع روسيا في وسط أوراسيا، بعيدا عن البحار التي تتيح حرية الإبحار في أي اتجاه، وهي مرتبطة جغرافيا بممرات نقل معينة على نحو صارم علاوة على ذلك، فقد نشأت روسيا كدولة وحضارة بفعل التجارة، أو بالأحرى بفضل طرق التجارة العابرة خلالها.
وكان الطريق التجاري الأول الذي ساهم في نشأة الحضارة الروسية القديمة هو طريق التجارة ما بين القسطنطينية إلى بحر البلطيق عبر نهر الدنيبر (مارا بكييف وسمولينسك وفيليكي نوفغورود). ولم تكن المدن الروسية القديمة الأولى، التي ازدهرت تجاريا وأصبحت عواصم للإمارات في البداية سوى محطات تجارية على هذا الطريق.
كان الطريق الثاني الذي أدى إلى نشوء ما يعرف اليوم بروسيا، هو طريق التجارة من بلاد فارس إلى بحر البلطيق، والذي يمر من بحر قزوين بطول نهر الفولغا عبر الإمارات الروسية الشمالية، بما في ذلك موسكو، التي نجت من الغزو المغولي وكانت محمية بشكل أكبر بالغابات من غارات تتار القرم.
أما روسيا الحديثة فقد ولدت عندما غزا القيصر إيفان الرهيب قازان وأستراخان، إمارات التتار على نهر الفولغا، منتصف القرن السادس عشر، ليزيل بذلك العقبات أمام الوصول الحر إلى بحر قزوين.
بعد مئة وخمسين عاما من هذا التاريخ، وتحديدا في العام 1722، شن بطرس الأكبر حملة على بحر قزوين، فاستولى على دربند، التي كان حاكمها الفارسي ينهب قوافل التجارة الروسية. ومع ذلك، في عام 1735، أعادت روسيا دربند وباكو (عاصمة أذربيجان الحديثة) إلى إيران، مقابل التزام الأخيرة بالتحالف في الحرب الروسية التركية القادمة. تتشابه هذه المعاهدة كثيرا مع معاهدة الشراكة الاستراتيجية الحالية بين روسيا وكوريا الشمالية (لكن ليس مع إيران الحديثة)، وصولا إلى التزام كل طرف بدخول الحرب في حال تعرض الطرف الآخر لهجوم.
وكما يقولون فالجغرافيا قدر. لهذا نرى نفس النماذج تتكرر مرارا وتكرارا عبر التاريخ.
لا أميل شخصيا إلى اعتبار رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان رجلا ذي ذكاء حاد أو استراتيجي موهوب، إلا أنه، وبخيانته للمصالح الوطنية لأرمينيا، وتنازله عن ممر زانغيزور للولايات المتحدة، حكم على عدو أرمينيا، أذربيجان، دون قصد، بأهوال الحرب.
تمر أربعة ممرات تجارية عبر أذربيجان: أحد فروع طريق الحرير العظيم من الصين إلى أوروبا، والممر الروسي الإيراني، والممر الأمريكي إلى آسيا الوسطى، ونظيره التركي إلى آسيا الوسطى. تتعارض جميعها بدرجات متفاوتة، تبعا للوضع الدولي الراهن، الذي في ظله لا يمكن إلا للممرين الروسي والصيني فقط التعايش بسلام.
وعبثا يطير الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف فرحا بسيطرته على قره باغ وفتح ممر زانغيزور، لأن أذربيجان بذلك قد أصبح محكوم عليها أن تصبح ساحة معركة بين القوى العظمى.
فبالنسبة لروسيا، تعد قضية إنشاء ممر عبر إيران إلى المحيط الهندي مسألة حياة أو موت، ما دام حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي يمنعان روسيا من الوصول إلى بحر البلطيق والتجارة مع الدول الأوروبية. وبالنسبة لروسيا، تتعاظم المخاطر على نحو كبير أكبر بكثير من غيرها: ففي حالة نشوب صراع عسكري مباشر مع أوروبا، سيصبح الطريق عبر إيران هو الممر التجاري الرئيسي للبلاد.
ودون الانتصار في المواجهة مع الغرب، وهو انتصار لا ينظر إليه حتى الآن باعتباره قضية تحسم في المستقبل القريب، يصبح إنشاء ممر جنوبي عبر إيران مهمة جبارة لروسيا، تضاهي في حجمها تأسيس الإمبراطورية الروسية على يد بطرس الأكبر، والتي لم تعلن إلا بعد وصوله إلى بحر البلطيق. ويمكن كذلك مقارنة تلك المهمة بانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، والذي حول الاتحاد السوفيتي إلى ثاني قوة عظمى في العالم.
وكما كان الحال في القرن الثامن عشر، فإن الوضع الجيوسياسي يتطلب بشكل عاجل من روسيا وإيران إنشاء تحالف عسكري.
لكن إيران، مع ذلك، تقف اليوم عند مفترق طرق، منقسمة بين القوى المؤيدة للغرب، التي قد يربطها الشعب بآمال التغيير، وبين المحافظين المناهضين للغرب، الذين قد يكونون أكثر حرصا على مصلحة البلاد، لكن سجلهم من وجهة نظر الشعب مثقل بسنوات طويلة من الصعوبات الاقتصادية والقيود المختلفة. كم يشبه ذلك من نواح عديدة حقبة غورباتشوف لدينا في روسيا. ربما يكون هذا نمطا مؤسفا، لكنه النمط الطبيعي، كحركة البندول، حيث يكرر المجتمع الإيراني، بما في ذلك قياداته، خطأ الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة على أمل تحسين العلاقات مع الغرب. ومع ذلك، وبخلاف انهيار الاتحاد السوفيتي، سيتعامل الغرب بقسوة أكبر مع إيران، لعدة أسباب من بينها العامل الإسرائيلي.
مع ذلك، تشكل أذربيجان، حتى بالنسبة للقيادة الإيرانية الحالية، تهديدا قاتلا. دعونا لا ننسى من أين انطلقت مروحية الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي التي تحطمت، والعلاقات الممتازة والتعاون الوثيق بين أذربيجان وإسرائيل والولايات المتحدة. وفي حال وقوع عدوان جديد محتمل من الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران، ستُجر أذربيجان حتما إلى الحرب، إما كقاعدة عسكرية، أو حتى كمشاركة فاعلة في تفكيك إيران.
لذلك، قد لا تضطر روسيا إلى الانتظار عدة عقود حتى يتأرجح البندول وتصبح إيران ناضجة للتحالف العسكري مع روسيا.
على أية حال، فإن نقل ممر زانغيزور إلى الولايات المتحدة أضاف بحر قزوين إلى قائمة الصراعات الكبرى المحتملة في السنوات المقبلة، وإذا تجمدت الحرب في أوكرانيا فجأة (وهو ما أشك فيه للغاية)، فإن فرص اشتعال هذه المنطقة ستتضاعف عدة مرات.