افراسيانت - ندى حطيط - لم تعد غزةَ مجرد رقعة صغيرة على شاطئ بحر فلسطين، بل صارت، معمدة بدماء شهدائها والجرحى، ميزان عدلٍ يميل ويستقيم، حسب مواقف البشر، وبوصلة تكشف أي القلوب ما زال حياً وأيّها مات تحت الضوء.
في هذا المشهد – الفاروق، لا نملك إلا أن نلحظ التباساً في الاستجابة لما يجري من إبادة للفلسطينيين بين جناحي القارة القديمة: في عواصم أوروبا الغربيّة، شوارع تغصّ باللافتات المؤيدة لغزة، وحشود تطالب بوقف القتل والتجويع واستهداف الصحافيين، ووجوه شبابية تشعل ميادين لندن وبرلين وباريس بشعور أخلاقي جارف يجعلها عنيدة لا تخشى سطوة الأجهزة الأمنية المتغوّلة دفاعاً عن الكيان، ولا أحكام القضاء المسيسة، فيما وارسو وبودابست وبوخارست وبقية عواصم أوروبا الشرقية تبدو في الوقت ذاته وكأنها في سبات سياسي تجاه الإبادة الجاريّة، بلا نبض جماهيري يقارب ما نشهده على الجانب الآخر من القارة، ولا حرج حكوميّ يدفع لاتخاذ مواقف دبلوماسية غير مسبوقة في جرأتها على نقد الحرب الإسرائيلية ما يدفع المرء للتساؤل عن خلفيات هذا التباين الفاضح بين شعوب يجمعها فضاء الاتحاد الأوروبي الواحد.
غربي القارة: تعاطف إنساني وصدام سياسي
في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وعدد من دول غربي أوروبا وشمالها الاسكندنافي، وفّرت نشرات الأخبار على مدى الشهور صوراً يومية من غزة: أحياء مدمّرة، وأمهات يصرخن وسط الركام، ومستشفيات بلا دواء ولا كهرباء، ومجوعين يخاطرون بحياتهم من أجل كيس طحين.. هذا السيل البصري أيقظ بوصلة أخلاقية لم تفسد لدى قطاع واسع من الجمهور، وأصبح الملف الفلسطيني قضية ضمير وحقوق إنسان، قبل أن يكون نزاعاً جيوسياسياً بعيداً هناك في الشرق الأوسط.
وتدريجياً مع تمسّك النخب الحاكمة بتحالفاتها التقليدية المتوارثة مع إسرائيل، واستمرارها في تصدير السلاح وامتناعها عن الإدانة الواضحة للمذبحة، يقترب التعاطف الشعبي من الفعل السياسي بعدما ازدادت الفجوة اتساعاً بين نبض الشارع وحساب الحكومات، حتى أن مراقبين توقعوا أن فلسطين قد تصبح نقطة العبور نحو تمرد جماعي مدني يلخص أوجاع المواطنين وتظلماتهم في مواجهة السلطات بشأن معنى التمثيل السياسي، وحدود التحالفات بين الطبقات والأعراق، ومكانة حقوق الإنسان في السياسة الخارجية.
الشرق: الحرب القريبة قبل الحرب البعيدة
في أوروبا الشرقية ما زالت أولويات الأمن تُرسم في ظلال حرب أوكرانيا. هناك، حيث العدو القريب واضح، ومزاعم الخطر الروسي حاضر في كل نشرة أخبار، وأسعار الطاقة والحدود الآمنة تظل أهم من أي ملف آخر. في هذا الإطار، يقرأ مواطنو شرقي القارة حرب غزة غالباً من زاوية الاصطفافات الدولية: إسرائيل تُرى شريكاً ضمنياً للغرب في مواجهة المحور المناوئ، وأي خطاب ينتقدها يمرّ عبر فلاتر الأمن والتحالفات. فيما الإعلام المحلي منشغل بتغطيات مكثفة لميادين القتال في خاركيف أو أوديسا، لا لإبادة غزة.
قوة المجتمع المدني
سوى هذا الفرق في الأولويات المحليّة، يلحظ أيضاً أن شبكة المجتمع المدني في أوروبا الغربية، متينة ومؤثرة مقارنة بشرقها، حيث نقابات، واتحادات طلابية، ومنظمات حقوقية، وبلديات لها تاريخ عريق في دعم الحملات التضامنية مع الشعوب. وهذه الشبكات تملك خبرة في ترجمة الغضب إلى ضغط سياسي على أعصاب الحكومات: من تنظيم مسيرات، إلى تدبيج عرائض، ومن حملات المقاطعة، وصولاً إلى نقاشات البرلمان.
أما في شرق القارة، هذه البنية أضعف بشكل ملحوظ أو محاصَرة؛ والإعلام أقل تعددية، فيما تعمل المنظمات المستقلة تحت قيود قانونية وسياسية تجعل التعبئة الجماهيرية أصعب، وأحياناً أخطر على المشاركين. وحتى حين تنظم احتجاجات، فهي غالباً محلية الطابع (أسعار، فساد، قضايا بيئية) وليست مرتبطة بالسياسة الخارجية، لذلك، لا تكتسب الزخم أو الرمزية التي تراها في مسيرات لندن أو برلين حيث تُرفع فلسطين كرمز أوسع للعدالة والحقوق.
بين القرب الاجتماعي والذاكرة التاريخية
في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ملايين من العرب والمسلمين الذين يشكلون جزءا مهماً من النسيج الاجتماعي، ولهم حضور ملفت في الجامعات، والنقابات، والمجالس البلدية. هذه الوشائج الاجتماعية والدينية مع الفلسطينيين تعني أن مأساة غزة ليست خبراً بعيداً، بل قصة صديق، أو زميل دراسة، أو قريب أو أخ في الدين. وهذه الروابط الشخصية تجعل من السهل على التعاطف أن يتحوّل إلى احتجاج وربما فعل سياسي.
في الشرق، الصورة مختلفة، حيث الجاليات المسلمة أقل عدداً وتأثيراً، والذاكرة التاريخية تحمل طبقات من التوتر مع (الآخر المسلم) مرتبطة بصراعات الماضي مع الإمبراطورية العثمانية أو الجوار الجنوبي. وهذا بالطبع لا يلغي وجود تعاطف إنساني مع ضحايا حرب الإبادة، لكنه يمرّ عبر فلاتر ثقافية وسياسية تقلّل من قابليته للتحوّل إلى فعل جماهيري واسع.
دور الشاشات في صناعة الفارق
الإعلام غربي القارة، ورغم انحيازاته، يتيح مساحات أوسع للنقاش الحقوقي والقانوني، ويستضيف بعض أصوات مناهضة للسياسات الحكومية، لا سيما من النواب والحقوقيين والأطباء. في الشرق، الإطار السائد هو (الأمن) و(الاصطفافات)، مع حضور كبير لمسؤولي الدولة وقلة في الأصوات الحقوقية أو النقدية. والنتيجة: أن المشاهد في الغرب يسمع أخبار غزة مقرونةً بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، بينما يسمعها الشرقي مقرونةً بمكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي.
حتى تغطية الاحتجاجات تختلف: في الغرب، كل مسيرة ضخمة تفرض حضورها على الهواء، إن ليس على القنوات الكبرى فعلى القنوات البديلة وعبر الانترنت، ما يخلق مادة توسع من مساحة دائرة التعاطف. لكن في الشرق، فإن الاحتجاجات القليلة تُعرض مقتضبة أو تُربط بالمخاوف الأمنية، ما يحد من قدرتها على إلهام آخرين للخروج.
وعلى كل الأحوال، فإن الصورة ليست متطابقة في كل العواصم. في الغرب، هناك حكومات أكثر جرأة (إيرلندا، إسبانيا) وأخرى أشد تمسكاً بالتحالف مع إسرائيل (بريطانيا، ألمانيا). وفي الشرق، هناك مواقف شعبية متعاطفة لكنها خافتة أو غير مُمأسسة، ترافقها تحوّلات بطيئة في النبرة الرسمية مع تصاعد الكلفة الإنسانية للحرب.
هل سيستمر هذا التباين؟
في شرقي القارة، قد يظل الغياب النسبي للحراك قائماً طالما بقيت الأولويات الأمنية والسيطرة الإعلامية على حالها. لكن إذا ترافقت حرب غزة مع أزمات أخرى تمس الداخل مباشرة—كأزمات طاقة أو هجرة أو حتى تراجع الدعم الغربي في أوكرانيا—فقد تنفتح نافذة لتقاطع جديد بين التعاطف الإنساني والمصلحة السياسية.
قد يتغيّر هذا التباين، ويلتقي الغرب والشرق في ساحة غضب واحدة إذا تراكمت العوامل الضاغطة. لكن حتى ذلك الحين، ستظل نشرات الأخبار تروي قصتين متوازيتين لا تلتقيان: غربيون غاضبون تضجّ شوارع مدنهم بصرخات الحريّة لفلسطين، وشرقٌ تضيع فيه أنات ضحايا غزة تحت ضجيج الحرب في الجوار.