افراسيانت - سنان حتاحت - أعلنت أنقرة عن انطلاق عملية عسكرية لتحرير مدينة جرابلس من "داعش"، حيث رصد عبور عدد من الآليات التركية من مدينة قرقميش الحدودية إلى داخل الأراضي السورية.
وقد جرى ذلك برفقة تحالف لقوات المعارضة سمي "درع الفرات"، وضم فصائل من "الجيش الحر"، أهمها: "فيلق الشام" و"حركة نور الدين الزنكي" و"فرقة السلطان مراد". فيما شوهد تحليق لسلاح الجو التركي في الأجواء السورية تمهيداً لعملية الاقتحام البري. وقد أسفرت النتائج الأولى للعملية عن سيطرة المعارضة السورية على أربع قرى في قضاء مدينة جرابلس ودخولها إلى الأحياء الشمالية للمدينة.
ويشكّل التدخل المباشر للجيش التركي منعطفاً مهماً في الأحداث التي تشهدها الساحة السورية مؤخراً. فلقد أتى في سياق إقليمي ودولي مضطرب، وفي فترة تشهد إعادة رسم التحالفات الدولية على أسس جديدة.
وينبغي في هذا الصدد تسليط الضوء على عدد من الأحداث التي سبقت إعلان عملية تحرير جرابلس، ويأتي على رأسها الحراك الدبلوماسي التركي المكثف لرأب الصدع مع موسكو إثر حادثة إسقاط القاذفة الروسية في الأجواء السورية، بالإضافة إلى إعلان "قوات سوريا الديمقراطية" عن سيطرتها الكاملة على مدينة منبج بدعم أمريكي غربَ نهر الفرات، وازدياد وتيرة الأعمال الإرهابية، التي شهدتها تركيا، وكان آخرها تفجير انتحاري استهدف حفل زفاف في مدينة غازي عنتاب الحدودية.
ولقد بات من المعروف أن تركيا بدأت تنظر إلى الصراع السوري من منظار مكافحة الإرهاب، تارةً للحؤول دون تحقيق تواصل جغرافي بين كانتونات الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، وتارةً لطرد تنظيم "داعش" بعيداً عن حدودها الجنوبية وإقامة منطقة عازلة بينه وبينها. وفي حين أن أنقرة أرجعت هدف مشاركتها في عملية تحرير جرابلس إلى تطهير الحدود السورية من وجود التنظيم الإرهابي، فلقد جاء على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان أن هدفها الآخر هو دفع "وحدات حماية الشعب" الكردية إلى شرق نهر الفرات.
ومن الجدير بالذكر أن زيارة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني إلى أنقرة جاءت قبل يوم من انطلاق العملية، وقد صرح في مؤتمر صحافي، عقب اللقاء الذي جمع بينه وبين أردوغان، بأن سبب زيارته إلى أنقرة كان معالجة مسألة المدارس التابعة لفتح الله غولن في الإقليم، بالإضافة إلى عملية تحرير الموصل ومواجهة "داعش"، فإنه يصعب تخيل خلو اللقاء من الحديث عن سبل مواجهة تمدد "الاتحاد الديمقراطي" في سوريا، خصوصاً مع ارتفاع حدة الأصوات المطالبة بدخول قوات البيشمركة السورية إلى مناطق ما يسمى بـ"الإدارة الذاتية الكردية المؤقتة" في سوريا، واعتقال الحزب عددا من القيادات السياسية القريبة من بارزاني في المناطق الخاضعة لسيطرته.
وفي السياق نفسه، تتزامن زيارة نائب الرئيس الأمريكي حو بايدن إلى تركيا مع انطلاق العملية العسكرية التركية في جرابلس، وقد سبقتها انتقادات تركية لاذعة للإدارة الأمريكية على خلفية دعمها للعمليات العسكرية التي تقودها "وحدات حماية الشعب" غربَ نهر الفرات. ومن المتوقع أن يتصدر ملفا ترحيل فتح الله غولن إلى تركيا، وعلاقة واشنطن بـ"الاتحاد الديمقراطي" أجندة لقاءات بايدن بالمسؤولين الأتراك. وفي حين يصعب إقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لقوات الأكراد في شمال سوريا، والتي تعدّها أكثر القوات المحلية كفاءةً في مواجهة "داعش"، فإن من المنتظر مناقشة التزامها بانسحاب "قوات سوريا الديمقراطية" إلى خارج منبج بعد تحريرها من "داعش".
وقد دأبت الإدارة التركية مع احتدام حدة الصراع الدائر في سوريا على عدم التورط والتدخل بشكل مباشر في البلاد، ولطالما وضعت دعم حلف الناتو لأي عملية عسكرية في الأراضي السورية شرطاً أساساً لاشتراكها فيها، كما أنها نأت بنفسها عن مخاطر التدخل فيما لو اعترضت روسيا عليه، فما الذي دفع أنقرة إلى التدخل الآن؟ هل حصلت على ضمانات أمريكية لدعمها في هذه التحركات؟ أم أنها توصلت إلى اتفاق مع روسيا بعدم التعرض لها في حال تدخلها لحماية مصالحها الاستراتيجية؟ يصعب الإجابة على هذه التساؤلات بشكل قطعي بغياب معلومات أكيدة عن فحوى اللقاءات التي جمعت المسؤولين الأتراك الأمريكيين والروس، ولكن عددا من المعلومات الوافدة من ميدان المعركة تشير إلى تحقيق أجزاء من كلا الشرطين.
أولاً، أعلن كلٌ من "فرقة الحمزة" و"لواء المعتصم" مشاركتهما في العملية العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن كلا الفصيلين تلقيا دعماً أمريكياً، ويدخلان في برنامج البنتاغون لتدريب وتسليح المعارضة السورية.
ثانياً، اشتراك سلاح الجو التركي في العملية العسكرية؛ ما يشير إلى الموافقة الروسية الضمنية عليها، خصوصاً أن رقعة تدخلها الجغرافية تقع ضمن مدى منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس-300" في مدينة طرطوس.
لا يزال من المبكر جداً الحكم على نجاح التدخل التركي في سوريا؛ ولكن يمكن، في ضوء المعلومات المتوفرة الآن، التسليم بسعي أنقرة لتطهير الشريط الحدودي من أعزاز إلى جرابلس من وجود داعش وبعمق 15 كيلومتراً على الأقل. فيما تبقى الإجابة مفتوحة عن سؤال ماذا بعد جرابلس؟
فبالإضافة إلى توفر شروط إعلان منطقة آمنة في شمال سوريا، وهو مطلب تركي أصيل، يمكن لقواتها مساندة المعارضة السورية في التقدم إلى دابق، وأخترين، وحربل، حتى مدينة الباب الاستراتيجية. وكذلك إلى منبج في حال عدم استجابة "قوات سوريا الديمقراطية" لمطلب أنقرة في الانسحاب منها.
وفي السياق نفسه، يجب مراقبة سير المعارك في مدينة حلب، وتحركات "جيش الفتح" وخططه في الوصول إلى الريف الشمالي للمدينة. وماذا يمكن أن تحقق المعارضة السورية في حال سيطرتها على المناطق والمدن شرقَ مدينة مارع.
ومن المؤكد أن تركيا قد أمّنت لنفسها أخيراً موطئ قدم في سوريا، معلنةً بشكل رسمي عن تحقق وجود مباشر لها في عمق الأراضي السورية، ولتنضم بذلك إلى كل من إيران، وروسيا وأمريكا، ولتحاول بالتالي تصدر المشهد الدولي والإقليمي في سوريا. غير أن حدود تدخلها سترسمه ردود أفعال كل من روسيا وأمريكا إذا ما قررت أنقرة التحرك خارج الهامش المتاح لها دولياً وهو ضمن الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم "داعش". ولذا لا يمكن اعتبار هذا التدخل نتيجة لاتفاق نهائي بين هذه الأطراف، بل هو مقدمة لمرحلة جديدة يتحتم على جميع الأطراف الفاعلة فيها التعامل بعضها مع بعض بطريقة مختلفة، كما أنها تضيف ثابتاً جديداً على المعادلة الدولية والإقليمية للصراع السوري التي لا تفتأ أن تزداد تشعباً وتعقيداً.