تحذيرات تصاعدت مع أزمة رهائن مقهى بسيدني مهدت الطريق أمام زيادة ممارسات الأمن القومي المتعسفة ضد المسلمين بدعوى محاربة 'الذئاب المنفردة'.
افراسيانت - تقلّل دراسة صدرت عن الاتحاد الأميركي للحريات المدنية ممّا تُروّج له الأجهزة الأمنية الأميركية بشأن ظاهرة “إرهاب الذئاب المنفردة”. ولئن لم تنف الدراسة، التي حملت عنوان “فخ الإرهاب المنفرد”، أن “الذئاب المنفردة” المتشددة تشكّل خطرا، إلا أنها تنتقد تهويل السلطات الغربية لهذه الظاهرة التي تستعمل بشكل انتقائي للتدليل على خطر “إرهابي إسلامي”.
يصف الكاتب الصحفي في جريدة “واشنطن بوست”، شارلز كروتامر ظاهرة “الذئاب المنفردة” بـ”الكابوس الجديد”. وهذا المفكر المحافظ ليس وحده من يرى ذلك، إذ يعتقد آخرون أن الإرهابيين الذين يتصرّفون بطريقة فردية يمثّلون خطرا أكبر من تنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة والتنظيمات المتفرّعة عنه.
لكن، المشكل الوحيد بخصوص تصاعد التحذيرات من الإرهابيين المنفردين هو كون معظم التحذيرات غير صحيحة، فلا شيء جديدا فيما يتعلق بالتهديد، كما أن المفهوم غير موثوق به، فضلا عن أنه يستعمل بشكل انتقائي ليعني “إرهابي إسلامي” بالرغم من أن هذا الصنف لا ينحصر في نوع أيديولوجي معيّن.
والأدهى من ذلك أن تسليط الأضواء عليه، مؤخرا، يمهّد الطريق لزيادة ممارسات الشرطة والأمن القومي المتعسفة والتي تؤدي إلى نتائج عكسية، بما في ذلك اختراق المجموعات الناشطة وجاليات الأقليات ونصب فخاخ للإيقاع بالضعفاء.
"الذئب المنفرد"
"عندما لا يكون المشتبه به مسلما أو من أقلية أخرى نادرا ما تلتصق به صفة الإرهابي المثيرة للخوف"
إلى حد اليوم ليس هناك إجماع على المعنى الدقيق لعبارة الإرهاب، ونفس الشيء ينطبق على الفصيل المسمّى بالإرهاب المنفرد أو ما يطلق عليه إرهاب “الذئاب المنفردة”.
في الإعلام والدراسات الأكاديمية الحديثة، ما يفصل الإرهابي المنفرد عن الظاهرة بصفة عامة هو الفاعل. “الذئاب المنفردة” هم بحكم التعريف أفراد منعزلون، غالبا ما يعانون من مشاكل صحية ذهنية ويردّون الفعل بعنف على أهداف مدنية. وبصورة ما على الأقل، يتحرّكون بدافع من المعتقد.
وكثيرون في الولايات المتحدة لا يعرفون أن الدوافع وراء تلك الهجمات، ليست دائما دوافع دينية، وبالتحديد “إسلامية”، بل في أغلب الوقت يكون مصدر هذه الجرائم دوافع تبدأ من معتقدات دينية مناهضة للإجهاض إلى الاعتقاد بتفوّق الجنس الأبيض، ومن حقوق الحيوان إلى رؤية للعالم مستوحاة من فكر تنظيم القاعدة.
وحسب أدبيات البحث في الموضوع، تتميّز “الذئاب المنفردة” بصفة الانفراد في التخطيط لأعمالهم وتنفيذها، كما يفتقدون للضغوط من المجموعة ولا يتلقون مساعدة في تصوّر جرائمهم وتنفيذها. وبهذه الطريقة يشبهون كثيرا القتلة المهتاجون ومرتكبي حوادث الطلق الناري في المدارس.
إن تحديد الأسباب وراء انضمام الأفراد إلى الجماعات الإرهابية أمر معقّد، ونفس الشيء يصحّ على الأشخاص الذين يمارسون العنف ويتصرّفون بمفردهم. فمثلا بعد مراجعة 119 حالة متعلقة بالإرهابيين المنفردين، استنتج الباحثون أنه “لا توجد صورة موحدة للإرهابيين الذين يتصرفون بمفردهم”.
وأضافوا أنه حتى في حالة بروز مثل هذه الصورة، فستكون عديمة القيمة أساسا لأن الكثير من الناس الآخرين الذين لا ينخرطون في أعمال إرهابية على انفراد يشتركون في هذه الخصائص، في حين أن آخرين غيرهم قد لا يشتركون في هذه الصفات، لكنهم مع ذلك ينخرطون في هذا النوع من الإرهاب.
وكمجموعة يختلف هؤلاء الإرهابيين عن بقية المجتمع بصفة عامة بطريقة أساسية إذ تم تشخيص مرض عقلي أو اضطراب ذهني لدى واحد من ثلاثة منهم قبل الانخراط في العنف السياسي. ووجدت دراسة ركّزت على 98 شخصا متورطا في هذه الأعمال من العنف أن قرابة 40 بالمئة منهم أظهروا مشاكل صحية عقلية واضحة.
وتأتي دراسة قام بها الباحث رامون سبايج، من جامعة فكتوريا الأسترالية، لتبديد بعض المخاوف التي يتم ربطها حاليا بالإرهاب المنفرد. وقد أنشأ هذا الباحث قاعدة بيانات متكونة من 88 إرهابيا منفردا نفّذوا هجمات بين 1968 و2010 في 15 بلدا. وحدد سبايج 198 هجمة ارتكبها هؤلاء وهو ما يمثل 1.8 بالمئة من مجموع الحوادث الإرهابية في كافة أنحاء العالم البالغ عددها 11235 عملية.
الإرهابي المنفرد ليس بالضرورة مسلما
أثناء أزمة الرهائن في مقهى بسيدني خلال شهر ديسمبر الماضي، والتي نفّذها مهاجر إيراني يدعى مان هارون مونيس، تنبّأ مايكل مورال، نائب مدير “سي.آي.إيه” سابقا، بحدوث مثل ذلك الهجوم في الولايات المتحدة. وهذا ليس إلا مثالا للتصعيد الخطابي الحديث من قبل المسؤولين الحاليين والسابقين في الأجهزة الأمنية الأميركية عندما يتعلّق الأمر بهذا النوع من الهجومات.
بيد أن تصريح مورال ليس تنبؤا بالمرة إذ تحدث مثل تلك الهجمات في الولايات المتحدة منذ زمن وإحداها حُلّ لغزها منذ أكثر من شهر وتتعلق بحادثة إطلاق النار على شرطيين في سبتمبر الماضي خارج مخفر الشرطة، ممّا أدى إلى مقتل أحدهما وجرح الآخر.
وتم اتهام الجاني بتهمتين متعلقتين بالإرهاب بعد أن اعترف بأن استهدافه للشرطيين كان طريقة “لإيقاظ الناس”، وكان قد عبّر في رسالة لوالديه بأنه يريد “إشعال نار” لأن لا شيء غير “ثورة جديدة يمكنها أن تعيد لنا الحريات التي كنا نملكها سابقا”.
عنف من هذا القبيل، سواء صنّف إرهابا أم لا، ليس ظاهرة جديدة بل شهدته الولايات المتحدة على مدى عقود، لكن دون أن يصاحبه هذا النوع من الذعر وبث الخوف والإجراءات المتخذة هذه الأيام. وحسب الباحث سبايج جرت 54 بالمئة من الهجمات الإرهابية المسجّلة في 15 بلدا بين 1968 و2010 في الولايات المتحدة.
لكن هذه الأرقام مضخّمة بشكل واضح وذلك يرجع إلى أن الكثير من الأعمال الإرهابية المنفردة المستلهمة من الأيديولوجيا التي تتبناها القاعدة كانت في الحقيقة نتيجة لمخططات شجّعتها أو ساعدت عليها القوات الأمنية، وذلك عن طريق مخبر حكومي أو عميل سري يتولّى إدارتها أو التشجيع عليها.
وهذا النوع من “الفخاخ” التي تنصبها الحكومة لا يؤدي فقط إلى تضخيم عدد الحوادث الإرهابية التي يقوم بها شخص منفرد في الولايات المتحدة بل وكذلك يركز تطبيق القانون بشكل غير متناسب على الجاليات الأميركية المسلمة.
مثال فاضح عن هذه الممارسات يتعلق بحالة رضوان فردوس، وهو شاب أميركي مسلم في السادسة والعشرين من العمر من ولاية ماساتشوستس، قبضت عليه “أف.بي.آي” سنة 2011 من أجل التآمر مع عملاء سريين لصنع طائرات من دون طيار محمّلة بالمتفجرات باستخدام طائرات موجهة عن بعد بنية تنفيذ هجمات على البنتاغون وبناية الكابيتول، المقر الرئيسي للحكومة الأميركية.
"تسليط الأضواء على ظاهرة الذئاب المنفردة يمهد الطريق لزيادة ممارسات الشرطة والأمن القومي المتعسفة"
في الواقع كانت هذه خطّة من تدبير الحكومة ولم يكن فردوس إرهابيا منفردا، فهو كان غير قادر على التفكير في ذلك أو تنفيذه لوحده. وتغافلت “أف.بي.آي” عن الأدلة الواضحة على أن هدفه لم يكن إرهابيا، فهو رجل مريض عقليا وصحته تتدهور بسرعة.
وبالرغم من ذلك تمت الإشارة إليه باستمرار على أنه “إرهابي” من قبل الأجهزة الأمنية والإعلام وحكم عليه بالسجن لمدة سبعة عشر عاما من أجل توفير الدعم المادي للإرهابيين.
في المقابل عندما لا يكون المشتبه به مسلما أو من أقلية أخرى قلما تلتصق به صفة الإرهابي المثيرة للخوف. ومثال ذلك جايمس فون برون، المؤمن بسيادة الجنس الأبيض والذي قتل حارس أمن في متحف ذكرى المحرقة في الولايات المتحدة.
حسب وزارة الأمن الداخلي لم يكن للحادثة أي علاقة بالإرهاب بالرغم من أنها كانت بدافع أيديولوجي مثلما اعترف أحد المسؤولين في جهاز “أف.بي.آي”.
والمثال الآخر هو محاولة رجل اسمه فرانسيس غايدي قام بإحراق مصحة توليد قيد الإنجاز في سنة 2012 بحجة “أنهم يقتلون الرضع هناك”، ولم يتهم هذا الرجل كذلك بالإرهاب بتعلة أنه حاول إحراق غرفة غير مأهولة في بناية فارغة.
ردات فعل تأتي بنتائج عكسية
بدأت ردات الفعل حول “الذئاب المنفردة” تتوسّع شيئا فشيئا مع تصاعد التحذيرات، مثلما هو الحال بالنسبة إلى أشياء أخرى كثيرة في السنوات الأخيرة، في طريق الدولة البوليسية الأميركية. وأحد ردات الفعل هذه يأتي في شكل برنامج اسمه “مجابهة التطرف العنيف”.
يهدف هذا البرنامج إلى عقد شراكة مع الجاليات (كلها تقريبا جاليات مسلمة على المستوى العملي) تحت مسمى الوقاية من الإرهاب. ويقوم على توفير فضاءات آمنة يمكن لأفراد الجاليات (المسلمة بالخصوص) أن يتناقشوا فيها في السياسة والدين دون خوف من أعوان الحكومة المتربّصين.
لكن، تكون ضريبة هذا “الأمن” دفع أفراد هذه الجاليات لاحقا على نقل ما قيل ومن قبل من إلى السلطات بحجّة محاولة التعرّف على من هم عرضة ليصبحوا “ذئابا منفردة” أو متطرّفين عنيفين. وترى الجاليات المسلمة الأميركية أن تكليف أفراد منهم لنقل محتوى النقاش للسلطات، لا يختلف كثيرا عن زرع عملاء بينهم.
مثل هذا البرنامج، فضلا عن طرق أخرى مبتكرة للمراقبة على الإنترنت وجمع بيانات “بيومترية” عن الأفراد (أي الخصائص البيولوجية التي ينفرد بها كل شخص مثل مقاييس الوجه والحمض النووي)، تمثل اعتداء صارخا على المجتمع الحر. وستكون النتيجة خلق عالم قمعي بامتياز.
ومن الواضح من الآن أن هذه “الحلول” لن تنجح إذ من المتوقع أن تطغى الحالات المشتبه فيها بالرغم من براءتها تماما على الحالات الخطيرة فعلا. لكن يظهر أنه بالرغم من عدم نجاعة سياسة الدولة الأميركية الأمنية التي تقتحم الحياة الشخصية للمواطنين، لن يتوقف مساندوها على الدفع من أجل الحصول على المزيد من السلطة وطرق المراقبة المنتهكة للحريات. وهكذا كثيرا ما يكون الأشخاص الذين يتعهدون بحماية حياة الناس وحرياتهم هم أنفسهم من يطلقون إنذرا كاذبا بشأن “الذئب المنفرد”، في عملية استنفار وهمية.