افراسيانت - سامر إلياس - كشف خطاب "حالة الاتحاد" الأخير للرئيس الأمريكي باراك أوباما أن الهوس بالقوة يسيطر على ساسة واشنطن، بالرغم من الفشل في معالجة كثير من القضايا الداخلية والخارجية.
وتفاخر الرئيس "الأضعف" للولايات المتحدة، حسب إجماع معظم خبراء السياسة، بأن بلاده هي الدولة الأقوى في العالم، وأنها بوابة حل جميع المشكلات العالمية، وأنها كانت وستبقى القوة الاقتصادية الأولى عالميا.
وبقدر ما حمل الخطاب من عوامل التفاخر، كشف أيضا عن تناقض وانفصام يعيشه حكام واشنطن ونخبها، ففي وقت تروج فيه الولايات المتحدة لنموذجها الديمقراطي، وتدعو إلى ثورات ملونة في هذا المكان أو ذاك بحجة نشر الديمقراطية والحرية، فإن أوباما دعا إلى إصلاح النظام السياسي الأمريكي والحّد من تأثير المال على السياسة، وشدد على ضرورة وقف ممارسة التلاعب بمناطق الكونغرس وجعل التصويت في الانتخابات أسهل.. واللافت انتقاد أوباما الصريح للديمقراطية في بلاده بقوله إن "الديمقراطية تنهار عندما يشعر الشخص العادي بأن صوته لا يهم، وأن النظام مصمم لصالح الأغنى أو الأقوى أو لبعض المصالح الضيقة".
وينطوي قول أوباما على حق، لكنه يتجاهل حقيقتين هما: أن هذا النظام هو من أوصله إلى سدة الحكم قبل نحو سبع سنوات، وأن بلاده بنت النظام العالمي على أساس حق القوة ورأس المال في إدارة العلاقات الدولية.
فدور واشنطن في العقود الأخيرة هو دور "شرطي العالم"، تعاقب هذا وتكافئ ذاك.. وهيمنتها على أسواق المال أوصلت الاقتصاد العالمي أكثر من مرة إلى حافة الانهيار، وتسببت في نشر الفوضى والجوع والفقر في بلدان كثيرة.
وعلى الرغم من تسجيل نزعة مخالفة لإدارة أوباما في معالجة القضايا الدولية، فمن الواضح أن الانسحاب من العراق وأفغانستان، وحتى التوصل إلى تسوية سلمية للملف النووي الإيراني، حتمتها الكلفة الاقتصادية الباهظة لحروب واشنطن الكونية، وعدم الرغبة في خوض حروب جديدة، ولم تكن نتيجة مراجعة سياسية جادة تنهي إمكانية اللجوء إلى القوة الخشنة في حال الضرورة.
ويحمل خطاب رئيس "الدولة الأقوى" تناقضا وارتدادا عن السياسة الأمريكية بالتخفيف من خطر تنظيمي "داعش" والقاعدة وعدم تصنيفهما خطرا وجوديا على الولايات المتحدة.
فبغض النظر عن النتائج فإن الطائرات الأمريكية تنفذ منذ أكثر من عام غارات على مواقع "داعش" في سوريا والعراق، كما زادت واشنطن في أثناء حكم أوباما استخدام الطائرات من دون طيار لاستهداف "القاعدة" وغيرها من المنظمات الإرهابية في اليمن والصومال وباكستان.
ويخفي أوباما عجزه، أو عدم رغبته، بالقضاء على جذور الإرهاب، لغاية لم يفصح عنها، فالمثير أنه في ذات الخطاب يؤكد استمرار حالة عدم الاستقرار وأنه "حتى من دون داعش سيبقى عدم الاستقرار لعقود في الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان ومناطق في أمريكا الوسطى وآسيا وأفريقيا"، حسب قوله. كما لا يستبعد أن تصبح هذه المناطق ملجأ لمجموعات إرهابية جديدة، أو أن تسقط مناطق أخرى ضحية النزاعات الأثنية أو الجوع.
وهنا يطرح سؤالان حول الدور المنوط بما وصفه "الدولة الأقوى" في العالم في احلال السلم والأمن في العالم، وكذلك في المسؤولية عن معالجة الآثار، التي تسببت بها الحروب الأمريكية، والتي أدت إلى ظهور الإرهاب وتوطنه في أكثر من بؤرة عالمية.
وبداهة، فإن مطالبة أوباما الكونغرس لرفع الحظر المفروض على كوبا منذ نحو نصف قرن يعد خطوة مهمة واقرارا بأن "خمسين عاماً من عزل كوبا لم تنجح في نشر الديمقراطية"، وأدت إلى تراجع واشنطن في أمريكا اللاتينية.
كما أن دعوة المشرعين الأمريكيين إلى الاعتراف بأن الحرب الباردة انتهت يمثل نقطة للانطلاق نحو بناء عالم آخر، لكن هذه الشعارات لا تستقيم مع مواصلة مؤسسات الحكم في واشنطن سياستها في تصدير "الديمقراطية الأمريكية" إلى أكثر من بلد في العالم، مما تسبب وسوف يتسبب في حروب ودمار للمجتمعات الأهلية.
ومما لا شك فيه أن الانتقادات لخطاب العداء بحق المسلمين جيدة، لكنها غير كافية ولا تمثل أكثر من دعاية انتخابية للحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة، إذا لم تقرن بحملة واسعة لوقف التمييز والهجوم على المسلمين في وسائل الإعلام الأمريكية.
وأخيرا، فإن عبارات آخر خطاب عن حالة الاتحاد لأول رئيس "ملون" يحكم الولايات المتحدة، وحائز على جائزة نوبل للسلام، بعد خطابات ووعود قطعها، وبلاغة نادرة في الخطاب، لم تستطع التغطية على هوسه بعقدة القوة والتفوق، أو على وعود لم ينفذها منذ حملته الانتخابية، ومنها إغلاق معتقل غوانتانامو، ومن المستبعد أن يصبح أوباما جديرا بجائزة نوبل في سنته الأخيرة، فالعالم سوف يعاني لعقود أخرى من آثار سياسات واشنطن في ازدواجية المعايير وتصدير مشكلاتها إلى العالم وحلها على حساب الشعوب الأخرى.