خبراء يحذرون من تحول ليبيا إلى صومال جديد تغيب فيه سيادة الدولة وتحلّ محلها دولة الفوضى، وحل الأزمة يبدأ بحل الجماعات المسلحة.
افراسيانت - د. حسـن مصدق - الأحداث التي تعصف بليبيا زجت بها في أتون أزمات اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية غير مسبوقة، تتخذ منحى أكثر خطورة مع تعقّد الأزمة. وعلى ضوء هذه المؤشّرات المقلقة لا يتوقّع الخبراء نهاية قريبة للأزمة في ليبيا بما يرشّح هذا البلد النفطي إلى أن يصبح “صومالا” جديدا تغيب فيه سيادة الدولة وتحلّ محلها دولة الفوضى وانتشار السلاح وعدم استقرار وانعدام السلطة.
تعد ليبيا بلدا استراتيجيا لكونها تطل على حوض البحر الأبيض المتوسط وتمثل بوابة مفتوحة نحو قلب أفريقيا، فضلا عن كونها الرابط الذي لا بد منه في وصل المغرب العربي بمشرقه. لذلك لن يفلت من تداعيات أزمتها السياسية والأمنية كل جيرانها سواء القريب منهم أو البعيد.
وبداية الأزمة في هذا البلد النفطي يمكن إرجاعها إلى تحوّل عدم المصالحة بين الشرعية الثورية والشرعية السياسية إلى معيق أساسي للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، أججته الصراعات القبلية والمناطقية. وقد كان من المنتظر من القوى الإسلامية التي دخلت معترك السياسة ألا ترفض المنظور الوطني للدولة الليبية وأن تطبق مبدأ تداول السلطة كاملا، بحيث تنصف وتعدل، لكنها غدت عمليّا نقيض ذلك، بل أصبحت السلطة عندها محصلة نزاع وصراع تارة، وعلاقة قوة بقوة تارة أخرى؛ وذلك من خلال منظور للهيمنة والإقصاء بفعل التكفير والهجوم على التيارات السياسية غير الإسلامية.
ومن ثم كانت استحالة تطبيق الديمقراطية، التي نادى بها متظاهرو 17 فبراير. وكان العجز عن مواجهة التحديات الداخلية مقدمة منطقية للعجز عن مواجهة التحديات الخارجية. وذلك عندما سعى فرقاء ليبيون إلى الاستحواذ على السلطة والإقامة فيها واللجوء إلى أي وسيلة لبلوغ الأهداف وتبرير الأفعال لإقصاء كل مناوئ أو مخالف.
والواقع أن الصراع حول السلطة وموارد الدولة قد دفع نحو عنف غذَّاه صراع الأجنحة، وظهور قوى جهوية مستقلة ومتنافسة لا ترى أبعد من مصالحها الفئوية والمناطقية. الأمر الذي زادت معه حدّة عدم الاستقرار بسبب الميليشيات التي لعبت دورا كابحا للمصالحة الوطنية من خلال سيطرتها على مناطق بقوة السلاح والتهديد ونشر ثقافة العنف.
وعليه فقد نجم عن عدم حلّها بعد سقوط نظام القذافي صعودها القوي كذراع عسكرية لأطراف سياسية استفادت من ضعف المؤسسات الليبية. كما أن انهيار الجانب المؤسساتي أدّى إلى فوضى أمنيّة شاملة، تلاه كثير من العمليات الانتقامية والطرد والتهجير والاغتيالات.
أزمة ليبيا مزيج من الانقسام الدولي والصراع الداخلي
◄ لماذا انقلبت الثورة إلى فوضى؟
◆ عدم المصالحة بين الشرعية الثورية والشرعية السياسية تحوّل إلى معيق أساسي للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في ليبيا.
◄ ما هي طبيعة العلاقات بين القوى المتصارعة؟
◆ الصراع في ليبيا متعدّد الأطراف واللاعبين؛ فهناك نزاع بين قوى إسلامية وأخرى مدنية، وصراع بين أنصار نظام القذافي والثوار، وأيضا صراعات قبلية ونزعات فيدرالية، وما يزيد الأمر تعقيدا تداخل هذه الصراعات فيما بينها بالإضافة إلى دخول التنظيمات الإرهابية على الخط.
◄ ما هي الأسباب التي أدت إلى تعقيد الوضع؟
◆ الصراع حول السلطة وموارد الدولة دفع نحو عنف غذَّاه صراع الأجنحة وظهور قوى جهوية مستقلة ومتنافسة لا ترى أبعد من مصالحها الفئوية والمناطقية.
◄ ما هي العقبات التي تقف حائلا دون تحقيق مصالحة وطنية؟
◆ الميليشيات تلعب دورا كابحا للمصالحة الوطنية، يدعّمه نزاع حول الشرعية بين حكومتين وتغذّيه انقسامات محلية ومصالح خارجية وتمدّد الجماعات الجهادية.
◄ هل من مخرج للأزمة الليبية؟
◆ الكثير من التعقيدات تجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل ليبيا في ظل الفوضي العارمة وانقسام المجتمع الدولي بين داعم للحلّ العسكري ومناد بالحلّ السياسي.
الملاحظ أن هذا الأسلوب، الميليشيات التي ترى أنها صاحبة الشرعية الثورية الوحيدة، يعكس مواجهة دائمة بين منطق السلطة وسلطة المنطق، وهو ما سبب شرخا حادا وبليغا في الجسم الليبي وولّد حالة من الاصطفاف بين معسكرين متقابلين.
وبالتالي يمكن القول إنه نجم عن الأزمة السياسية والأمنية الحالية نزاع في الشرعيات المتنافسة، غذّته انقسامات مصلحية ومحلية طفت على مشهد سياسي منقسم جهويا واخترقته نزاعات محلية ومناطقية. وقد وجدت هذه النزاعات تمثيلها الأبرز في تطورين مهمين هما: حكومتان وبرلمانان، وذلك عندما شكل عبدالله الثني في مارس 2014، حكومة شرعية في طبرق تحظى باعتراف دولي، ثم أعلن عمر الحاسي في 25 أغسطس، حكومة موازية في طرابلس تستند على المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته.
ثورية ضبابية ومسارات فوضوية
لا يماري أحد أن تيارات الإسلام السياسي تشكّل الجزء الأكبر في الفريق ‘الثوري’ الذي تبنّى استراتيجية السيطرة الأمنية، لأنه كان يتردد في القبول بدولة مدنية تقوم على الديمقراطية ودون أي عزل سياسي أو تمييز أو إقصاء، إلى أن اصطف بالتدريج في خانة راديكالية لم تساعده على تبني التوافق السياسي وحلول وسط وتنازلات متبادلة.
ومن الملاحظ أن الميليشيات الإسلامية سعت بكل قوة إلى خلق جو من الفوضى بممارسة ضغط مستمر ومدروس مسبقا على الحكومة للتسريع بتبني قانون العزل السياسي، وهو ما يفهم منه رغبتها آنذاك في خلق حالة من الاستقطاب وإضعاف الجهاز التنفيذي الشرعي.
وأدى الوضع غير المستقرّ، إلى انحسار نفوذ التيار الإسلامي، بعد انتخابات 25 يونيو 2014. وتزامن ذلك مع تصاعد التدهور الأمني والاغتيالات السياسية وعمليات الاختطاف، مما دفع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وبعض القادة العسكريين للإعلان عن عملية “الكرامة” التي حاول على إثرها الإسلاميون المتشددون تمديد صلاحية المؤتمر الوطني العام بطريقة أحادية من 07 فبراير إلى غاية ديسمبر، فضلا عن إعداد العدة للإعلان عن تحالف فجر ليبيا في 13 يوليو 2014، والمكون أساسا من ميليشيات مصراته وكتائب إسلامية في طرابلس ومجلس شورى ثوار بنغازي (كتائب مسلحة)، أبرزها كتيبة 17 فبراير، فضلا عن جهاديي أنصار الشريعة.
ونجم عن ذلك اقتتال حول مطار طرابلس والسيطرة على العاصمة في 23 أغسطس، استغله المؤتمر الوطني لإعلان حكومة موازية تشرف على مناطق بحد السلاح. وبالتالي عمدت حكومة طبرق، المعترف بها، دوليا إلى تقديم دعمها إلى اللواء حفتر وقررت تعيينه رسميا قائدا للجيش الليبي في 2 مارس 2015.
وعملت الميليشيات الإسلامية على التشويش على هذا الدعم بتصويره أنه عودة لأنصار النظام القديم، وهو أمر يعرف أصحابه أنه غير صحيح.
ولادة قيصرية للديمقراطية
تعتبر الدعاوى والطعون ضد برلمان طبرق فارغة المحتوى شكلا ومضمونا، خاصة عندما يصرّ الطرف الآخر على أنه الممثل الثوري الوحيد، متناسيا ما تقوم به ميليشياته من ممارسات غير مقبولة.
محاولة جذب قوى الإسلام السياسي لقوى إسلامية متشددة لصفوفها يعمق الأزمة السياسية والأمنية
وهذا الإصرار يدفع حالة التشنج إلى أقصى حد عبر تصوير منافسيه السياسيين كأعداء للثورة ومن أنصار النظام القديم. وقد عمد هذا الطرف إلى ممارسة استراتيجية التطويق العسكري الجهوية منذ البداية، وسعى إلى نزع الشرعية عن حكومة علي زيدان (نوفمبر 2012 - مارس 2014) تدريجيا بعد أن قام بشلها عمليا وقلب موازين القوى في البرلمان القديم. ناهيك عن قيامه بمحاولة تمديد صلاحية المؤتمر الوطني العام الذي وصل إلى نهايته عبر إشعال جذوة التوتر في العديد من المناطق في محاولة منه لعدم تنظيم انتخابات جديدة، حيث قام بتنظيم هجوم “فجر ليبيا” في يوليو 2014، كرد فعل ضد انتخاب البرلمان الذي اضطر إلى المغادرة مكرها إلى طبرق. وما لبث أن استغله البعض إلى رفع دعاوى قضائية دستورية تطعن في شرعيته، وفي دستورية قانون انتخابات مجلس النواب الليبي.
ودفعت هذه الاستراتيجية إلى مزيد من الفوضى، نجم عنها استقطاب حاد في محاولة جذب قوى الإسلام السياسي لقوى إسلامية متشدّدة لصفوفها. وضمن هذه الاستراتيجية تم تشجيع التقارب بين ميليشياتهما، وصلت أحيانا إلى القتال جنبا إلى جنب، مما سهل دخول الجهاديين المسرح السياسي، فضلا عن ظهور خطاب ديني متطرف الأمر الذي سهل تموقع المتشدّدين في الشرق والجنوب كنوع من المحاصصة الجغرافية.
وتوجّت الخطّة في نهاية المطاف بالدفاع عن تنظيم “أنصار الشريعة” علنا بعد قرار الأمم المتحدة وضعه في خانة المنظمات الإرهابية في 19 نوفمبر 2014، نظرا لعلاقته بتنظيم “داعش” وعلاقة هذا الأخير بتنظيم “مجلس شورى شباب الإسلام في درنه”، وهي ميليشيا ظهرت في أبريل 2014.
قامت عدة محاولات من طرف الأمم المتحدة وبلدان الجوار لجمع الفرقاء الليبيين حول مائدة الحوار وتنظيم عملية سلسة لانتقال السلطة من طرف المؤتمر الوطني العام إلى مجلس النواب الليبي، أبرزها ما حدث في غدامس بتاريخ 29 سبتمبر 2014.
ثم أخيرا قرار استئناف المشاركة في حوار ترعاه الأمم المتحدة ومحاولة جمع الفرقاء في المغرب هذا الاسبوع لكن الحل يبدأ من حل الميليشيات في غياب سلطة الدولة المركزية، وتردد المجتمع الدولي في كبحها وتجريدها من السلاح، ثم إصلاح المنظومة الأمنية برمتها. فما من حل للأزمة الليبية يلوح في الأفق إلا بفتح مسار جديد تشرف عليه الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية حفاظا على ماء وجه جميع الفرقاء، يتبعه اختيار نظام رئاسي وبرلماني (مختلط) يضمن التوازن بين جميع الجهات والمناطق، يتبعه توزيع عادل للثروة الليبية على كافة مناطقها منعا لطغيان الهوية المحلية والقبلية.
د. حسـن مصدق : باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون