افراسيانت - د. عبير عبد الرحمن ثابت - سطَر قطاع غزة بالأمس فى الذكرى الثانية والأربعين من يوم الأرض، ملحمة من ملاحم النضال والتضحية فى مسيرة الصراع المرير مع إسرائيل؛ والذى صعد للسماء فيها 18 شهيدا وسقط ما يزيد عن 1400 جريح، وهم مدنيين عزل يحاولون العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم، وذلك فى محاولة منهم لتطبيق القرار الأممى رقم 194، والتى فشلت الأمم المتحدة عبر سبعين عام متتالية فى تطبيقه وإعادتهم إلى ديارهم. ورغم حجم التضحية القاسى بفعل مجزرة الأمس إلا أن مسيرة العودة كشفت مجموعة من الحقائق ولعل أهمها:
1.لقد أعادت مسيرة العودة الصورة إلى حقيقتها، وأزالت عنها غبار 70 سنة من التدليس والخنوع الدولى لمنطق القوي، وظهر الوجه الحقيقى للصراع كما كان عشية إعلان قيام دولة عصابات الخزر الاشكنازيين الصهاينة فى فلسطين، ومشهد عصابات مسلحة تطرد شعبا مدنيا آمنا من أرضه بالقوة والإرهاب عبر تطهير عرقى مكتمل المعالم، وتحتل أرضه، وأعاد أحفاد تلك العصابات نفس المشهد بعد سبعين عام ليمنعوا أبناء وأحفاد أولئك اللاجئين من العودة إلى وطنهم.
2. رغم أن الآباء ماتوا فى منافيهم القسرية إلا أن الأبناء والأحفاد لم ولن ينسوا، بل بالعكس أولئك المستوطنين القابعين فى محيط مستوطنات غلاف غزة هم من هربوا وفضلوا مغادرة المنطقة مع بدء توارد أنباء مسيرة العودة؛ وهنا تظهر هشاشة ارتباط أولئك المستوطنون بالأرض وبمفاهيم البقاء الصمود عليها.
3. أحدثت مسيرة العودة زلزال حقيقى فى إسرائيل سوف تكون له ارتدادات عميقة وعلى أكثر من صعيد، ولقد أثبت مسيرة العودة أن الفلسطينيين قادرين على التفكير سياسيا خارج محددات الصندوق السياسى الذى تفرضه عليهم إسرائيل، وأنهم قادرين من خلال ذلك التفكير على إبداع أساليب نضالية متجددة بمقدورها تدمير الإستراتيجية الإسرائيلية التراكمية فى إدارة الصراع معهم، وإعادة عقارب الساعة سبع عقود إلى الخلف، وهذا النضوج السياسى الفلسطينى الاستراتيجى الذى بدأ يتجلى كواقع؛ هو أكثر ما يرعب إسرائيل الآن وغدا؛ خاصة إن تطور هذا النضوج مستقبلا ونجح فى تحفيز واستثمار مخزون التضحية الوافر لدى الشعب الفلسطينى.
4. لقد كسرت مسيرة العودة أهم استراتيجية إسرائيلية فى التعامل مع الفلسطينيين خلال الربع قرن الماضى، والتى تتمثل فى وضع منطقة عازلة سياسية بين الاحتلال والشعب الفلسطينى، واليوم ترى إسرائيل شبح الانتفاضة الأولى يطل برأسه ويلاحقها مجددا بعد ربع قرن من هروبها منه فى أزقة معسكرات غزة، وها هو يلاحقها إلى حيث اختبأت منه وراء سياج غزه.
5. رفع علم فلسطين وعلم فلسطين فقط ولا غير فى مسيرة العودة هو نذير شؤم على إسرائيل، وهو رسالة لإسرائيل أن الانقسام الفلسطينى وبعد عقد من الزمن لا يزال سطحيا جدا، ولم ولن يصل إلى عمق المجتمع الفلسطينى النضالى الشعبى، وهو ما يعنى أن التفتيت الممنهج الاسرائيلى للنسيج النضالى والوطنى قد باء بالفشل،
6. نجاح مسيرة العودة فى تجسيد المقاومة الشعبية السلمية فى غزة؛ سيفتح الطريق إلى تكرار التجربة فى الضفة نحو المستوطنات والقدس؛ وهذا هو كابوس إسرائيل الحقيقى، وهو أن تنطلق المسيرات السلمية الحاشدة من المدن والمخيمات نحو القدس والمستوطنات، وخاصة إن تزامن ذلك مع نقل السفارة فى يوم الذكرى السبعين ليوم النكبة القادم.
7. توقيت مسيرة العودة الآن وما قد تسفر عنه التطورات المتلاحقة للأحداث حتى 15 مايو، ولو بقى المشهد القائم اليوم على ما هو عليه، سيشكل ضربة قاضية لمشروع صفقة القرن الأمريكى الإقليمى كفيلة بتقويضه لو أحسن الفلسطينيون إدارة المشهد القائم بشكل استراتيجى، فنحن قادرين على قلب الكثير من المعادلات وتحويلها إلى معادلات صفرية .
8. بقاء المشهد على حدود غزة على ما هو عليه يشكل كارثة سياسية حقيقية لإسرائيل، لأنه يستنزفها ماديا ومعنويا؛ وسوف تكون له تداعيات خطيرة على الوضع السياسى الداخلى الاسرائيلى والاقتصادى والاجتماعى، إذا ما استمر لوقت طويل، وهو ما يعنى أن أمام إسرائيل خيارين لا ثالث لهم إما الإصغاء لصوت العقل والمنطق؛ وهذا يعنى أن على إسرائيل أن تدفع فاتورة سياسية كبيرة من التنازلات لغزة، وإما أن تشرع بأسرع وقت ممكن فى الذهاب مع غزة إلى حيث تجيد اللعب نحو مواجهة عسكرية شاملة، وعندها قد تصغر قيمة الفاتورة السياسية الأنية الدفع لصالح الفاتورة الأخلاقية والشرعية، والتى ستترجم حتما فى المستقبل لفاتورة سياسية أبهظ مما تتصور إسرائيل حتى ؛وان ظنت عبثا أن بمقدورها عبر حرب رابعة تطبيق جانبا مهم من صفقة القرن عبر إرساء دعائم دولة غزة، فإرادة الجموع التى خرجت اليوم قادرة على إفشال كل هذا العبث.
لقد قدمت غزة اليوم بسخاء تضحيتها المعهودة طوق النجاة للمشروع الوطنى الفلسطينى، ورسمت معالم الطريق نحو الحرية، والذى يمر حتما بإعادة الشعب مجددا للمشهد السياسى والنضالى على الأرض؛ فالشعوب لا تخضع للضغوط ولا الابتزاز؛ بل تقاوم وتضحى وتنتصر. هذه هى رسالة شهداء وجرحى مسيرة العودة لكل القيادات الفلسطيني، وها هو الشعب الفلسطينى يلقى لكم بطوق النجاة لتنجوا سفينة المشروع الوطنى وتخط طريقها ومسيرتها نحو العودة والدولة الفلسطينية الكاملة السيادة وبالقدس عاصمتنا الأبدية.
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.