حزب سيريزا يتبرأ من الديون الأوروبية ويكشف حقيقة العلاقات الاقتصادية والسياسية داخل الفضاء الأوروبي.
افراسيانت - عمار ديوب - الانتخابات الأخيرة في اليونان وما أفضت إليه من نتائج، لم يقتصر تأثيرها على البلد الأوروبي الفقير فقط، بل إنها أثارت تخوفات ذات ملامح اقتصادية وسياسية متداخلة. فوز حزب سيريزا أو “ائتلاف اليسار الراديكالي” وما قدمه من معالجات لمشاكل اليونان المزمنة خاصة الاقتصادية منها، كشف حقيقة العلاقات الاقتصادية والسياسية داخل الفضاء الأوروبي، وأماط اللثام على أن مقاليد الوضع الاقتصادي اليوناني لا تدار فقط داخل البلد، بل إن المقود يوجه أيضا من الترويكا الأوروبية ومن غيرها من الجهات المالية المانحة.
أطلق انتصار “ائتلاف اليسار الراديكالي” في اليونان موجة من المواقف الأوروبية الرافضة لبرنامجه الانتخابي، الذي أوصله لتشكيل الحكومة. فاز هذا الائتلاف المرفوض بـ149 نائبا من أصل 300 نائب، ولو فاز بـ151 لشكّل حكومة يسارية بمفرده. الحكومات الأوروبية أعلنت رفضها لبرنامجه الداعي إلى إنهاء التقشف وإعادة التفاوض حول الدين وإعادة إطلاق النمو.
التقشف، فرضته الترويكا الأوروبية (صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي واللجنة الأوروبية) وتعد ألمانيا أكبر دائن لليونان وتليها فرنسا، فلهما 80 بالمئة من الديون. وأدى هذا التقشف إلى انهيار كامل في الخدمات الاجتماعية وتراجع التعليم والصحة والقيام بطرد 20 ألف عامل سنويا ومنذ عام 2011 وإلى الآن، وتقهقر الطبقة المتوسطة وهروب آلاف المعامل الصغيرة إلى بلدان أخرى. وقد ساعد في ذلك التهرب الضريبي الكبير للشركات اليونانية الكبرى، حدث بالتوافق والتلاعب مع الاتحاد الأوروبي، والذي صار يتحكم باليونان بدءا من 2010، مع بداية الأزمة الاقتصادية الكبرى، ثم سنة 2011 حيث اعتمدت سياسات “المنيمونيو”، أو “اتفاقية الإنقاذ الثانية” التي تضمنت أربع شروط:
1 - الفوائد المرتفعة
2 - تنازل اليونان عن حق الحصانة.
3 - تنازل أثينا عن التعويضات المستحقة على ألمانيا بسبب احتلالها لليونان في الحرب العالمية الثانية.
4 - تطبيق القانون الإنكليزي الذي يعتبر الأجدر في موضوع حماية الدائنين.
شطب الديون
وقد تسببت هذه السياسة في ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل بنسبة تجاوزت 27 بالمئة، وإيقاف العمل بالعقود الجماعية للعمال، وتخفيض قيمة الأجور إلى النصف، واشتمال الضرائب للأجور المتدنية وتوقف الإنتاج الصناعي والزراعي وارتفاع الاستيراد وتوقف عجلة الإنتاج.
تشكل إعادة التفاوض بخصوص الديون والتي تجاوزت 300 مليار يورو مسألة في غاية الحساسية، حيث يطرح ائتلاف اليسار اليوناني، شطب قسم كبير من الديون كما شطبت ديون ألمانيا عام 1953 بسبب أزمتها بعد الحرب. وكذلك إيقاف دفع الفوائد وتخفيضها، واسترجاع قسم من الأموال من المصارف الأوروبية لأنها حُصّلت بالتلاعب المالي، ويطالب البنوك الأوروبية بـ12 مليار يورو لإعادة النمو لكن دول الاتحاد الأوروبي، وتحديدا ألمانيا، ترفض مسألة شطب الديون، وقد صرحت بأن لا مشكلة لديها بخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، وأكد آخرون أن “الديْن هو الديْن”. وأوقفت بعض البنوك تسليم الأموال لليونان قبل نهاية الانتخابات تخوفا من وصول اليسار إلى الحكم، في موقف يضرب مصداقية الديمقراطية الأوروبية.
ويشكل حجم الديون الضخم مانعا لأي عملية تنمية في اليونان، ولكن دون عملية التنمية فإن اليونان ذاهبة نحو الإفلاس بالكامل، وهذا ربما سيدفعها للخروج من الاتحاد الأوروبي وربما التطلع إلى علاقات مع روسيا والصين؛ وهذا أمر ممكن سيما وأن الشروط المذلّة للاتحاد الأوروبي هي أحد أسباب أزمتها وهي من أغرقت اليونان في أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة.
ائتلاف اليسار لا يفكر بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكنه يرفض كل مذكرة الترويكا النيوليبرالية المفروضة على اليونان. ويريد اليسار اليوناني إعادة عجلة النمو مجددا، من خلال تأمين فرص عمل جديدة لثلاثمئة ألف عامل، ورفع الحد الأدنى الأجور إلى 751 يورو، وإيقاف التهرب الضريبي للشركات اليونانية الكبرى، وتعميق الديمقراطية وإنهاء التدخل الأوروبي في القرارات السيادية لليونان، والذي كان يمنع سلطات اليونان التشريعية والتنفيذية والقضائية من اتخاذ أي قرار يخص شروط الترويكا دون موافقتها.
إذن يريد اليسار إعادة اليونان دولة كاملة السيادة وقادرة، فعلا، على الدخول إلى الأسواق الأوروبية وليس الخروج منها. وستتركز عملية التفاوض القادمة مع الاتحاد الأوروبي والمصارف الأوروبية على منع إيصال اليونان إلى إعلان الإفلاس. وهنا يشير المفكر الاقتصادي إيريك توسان إلى أن مصارف الاتحاد الأوروبي بإعطائها مليارات لليونان وبإشرافها هي على تنفيذ سياسات الليبرالية الاقتصادية وعقد صفقات لتوريد السلع إلى اليونان لصالح ألمانيا وفرنسا، كلها عوامل مسؤولة عن إيصال اليونان إلى الأزمة الحالية.
والقصد هنا أن زعيم الحزب اليساري واعٍ بدقة بمشكلات اليونان ومن سبّبها، ويتطلع إلى إعادة التفاوض بما يحقق بداية النمو لصالح اليونانيين الغارقين في أزمة عميقة وفقر شديد فضلا عن تزايد موجة الانتحار والهجرة الواسعة.
يتأتى رفض حكومات أوروبا لليسار اليوناني من احتمال تمدده إلى كل دول الجنوب الأوروبي كأسبانيا والبرتغال وإيطاليا وربما إلى إيرلندا التي تعاني من المشكلات ذاتها، وتطبق عليها دول أوروبا القوية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أسوأ السياسات النيوليبرالية وتعاني بسببها أزمات اقتصادية كبيرة، خاصة مع بروز توقعات كثيرة تؤكد انتصار اليسار الأسباني في الانتخابات القادمة.
ويشير باحثين كثر، إلى أن وحدة الاتحاد الأوروبي كانت لصالح الدول القوية فيه ويصفها محللون بالرأسمالية المتوحشة، بينما تضررت الدول الأقل تطورا فيه؛ وبدلا من أن تكون الوحدة الأوروبية لصالح كل شعوب أوروبا كانت لصالح الرأسماليات الأوروبية وضد الشعوب، وهذا ما قوّى اليسار فيها، وكذلك برز اليمين، وقد نال في اليونان رابع أعلى نسبة أصوات من المقترعين.
الأزمة ليست مقتصرة على جنوب أوروبا ولا شرقها، بل وكذلك على دول غرب أوروبا، ففي مواجهة الحكومات النيوليبرالية الأوروبية تبرز تيارات سياسية جديدة، تنافس القوى التقليدية وتطيح بها؛ فلأول مرة يفوز حزب اليسار الجديد في اليونان بنسبة أصوات عالية، ويتشظى حزب الباسوك الاشتراكي ويتراجع كثيرا، والأمر عينه في كل أوروبا.
ولكن وفي حال ضغطت “الرأسمالية الأوروبية المتوحشة” على اليونان وأسقطت حزب اليسار فإن أوروبا بأكملها ستتعرض لتقدم اليمين، وقد تكون هناك فوضى عارمة في كل أوروبا.
تصور يساري للأزمة
الحزب الشيوعي ومجموعات يسارية تروتسكية تنتقد رئيس الحكومة اليساري اليوناني الجديد ألكسيس تسيبراس، بسبب تحالفه مع حزب “اليونانيين المستقلين” الذي يرفض سياسة التقشف، ولكنه لا يرفض السياسات الليبرالية عامة؛ وتعتقد هذه الأحزاب أن تحالف سيريزا مع هذا الحزب سيجبره على تخفيض راديكاليته على حساب الطبقات الفقيرة، وهناك من طالب حزب سيريزا برفض نتائج الانتخابات.
تجاوزت ديون اليونان 300 مليار يورو، وأكثر من 60 بالمئة من الشباب عاطل عن العمل، وكافة فقراء اليونان يتطلعون إلى سيريزا لتنفيذ برنامجه الذي انتخبوه بسببه؛ ولكن الحكومات الأوروبية ومصارفها تعلن بوضوح رفض شطب قسم كبير من الديون أو تخفيض الفائدة، أو إعطاء أموال إضافية دون التقيّد بالشروط التي وقعتها من قبل حكومة حزب “الديمقراطية الجديدة” والذي حلّ في المرتبة الثانية في الانتخابات.
وبين هذا السندان وتلك المطرقة يتحرك سيريزا، وكل ميل نحو شروط الحكومات الأوروبية سيفقده شعبيه وقد يسقطه فورا، وكذلك فإن كل ميل نحو برنامج يساري جذري قد يعمّق الخلاف مع تلك الحكومات وتدفعه للخروج من الاتحاد الأوروبي، وإيقاع العقوبات على اليونان، وهذا بدوره سيؤدي إلى انهيار اليونان، وطبعا ستنهار كثير من البنوك المقرضة في ألمانيا وسيعم فقدان الثقة بالسوق الأوروبية، وهجرة رؤوس الأموال إلى اليابان وأميركا، إضافة لانخفاض قيمة اليورو كعملة عالمية، وربما حدوث فوضى عارمة وعمليات إرهابية واغتيالات يقودها اليمين اليوناني، وستكون لصالح الاستخبارات الأوروبية.
اليونان تخط تجربة جديدة وأمامها عقبات كبيرة، ولكن لا يمكن العودة فيها إلى الماضي أبدا، وكل الميول المذكورة أعلاه قابلة للتطور، وليس في اليونان فقط بل في كل أوروبا.