افراسيانت - يعيد الحديث عن استقالة أنديرس كومباس، المسؤول الأممي الذي كشف عن وقوع اعتداءات جنسية على أطفال من قبل قوات حفظ السلام الفرنسية والأفريقية في جمهورية أفريقيا الوسطى، احتجاجا على ما يعتبره فشل المنظمة في محاسبة كبار مسؤوليها تسليط الضوء والتساؤل حول الحالة المتردية التي وصلت إليها منظمة الأمم المتحدة ودورها الرئيسي في “إنقاذ البشرية من الجحيم”، في ظلّ تواتر التقارير والشهادات حول التقصير في تحقيق الأهداف والبيروقراطية المتصلبة وغياب الشفافية، إلى جانب فضائح الفساد المالي والأخلاقي.
فقد تصاعدت في الفترة الأخيرة، الانتقادات التي يتم توجيهها للأمم المتحدة والمنظمات الدولية المنضوية تحت مظلّتها وتتهمها بأنها باتت تفتقد أكثر فأكثر للموضوعية والحيادية مع تفشي ظاهرة الفساد لدرجة أنها أضحت تعقّد أكثر الأزمات بدل حلّها، لا سيما في هذه المرحلة الحساسة المتسمة بارتفاع وتيرة الأزمات في العالم.
وتدفع كثرة هنّات المنظمة الدولية، التي تأسست في 24 أكتوبر 1945، ببعض المتابعين إلى توقّع مصير مشابه لمصير عصبة الأمم (1919 - 1945)، المنظمة التي نشأت الأمم المتحدة على أنقاضها بعد أن فشلت في مهامها خصوصا بعد قيام الحرب العالمية الثانية.
وفي محاولة لإسكات هذه الانتقادات خرجت المنظّمة مؤخّرا بإعلان جاء فيه أنها ستتخلّى، بعد سبعة عقود من تأسيسها، عن مبدأ السرية الذي كان يعتمد لانتخاب الأمين العام، لكن يقول المراقبون “ظاهريا يعد هذا تحولا نحو إضفاء طابع ديمقراطي على عملية سرية تسيطر عليها الدول الخمس صاحبة حق النقض، لكن سيظل من الممكن اختيار المرشح في توافق سري لمجلس الأمن كما حدث على مدار 7 عقود”.
وستنتخب الجمعية الأمين العام القادم في أكتوبر المقبل، دون أمل كبير في التغيير المطلوب، والسبب الرئيسي لذلك أرجعه أنديرس كومباس، مدير العمليات الميدانية في مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، إلى فشل المنظمة في محاسبة كبار مسؤوليها.
وذكرت تقارير أن السويدي أنديرس كومباس سيستقيل من منصبه في 31 أغسطس، احتجاجا على الطريقة التي تعاملت بها الأمم المتحدة مع ما كشفه من وقوع اعتداءات جنسية على أطفال من قبل قوات حفظ السلام الفرنسية والأفريقية في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وقال كومباس، في تصريحات نقلتها شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، إن “الإفلات التام من العقاب لأولئك الذين ثبتت، بدرجات مختلفة، إساءة استخدام سلطاتهم، إضافة إلى أن عدم رغبة المنظمة في التعبير عن ندمها على الطريقة التي تصرفت بها تجاهي يؤكدان للأسف أن انعدام المساءلة مترسخ في الأمم المتحدة … وهذا يجعل من المستحيل بالنسبة إلي مواصلة العمل هناك”.
ستنتخب الجمعية الأمين العام الجديد للأمم المتحدة في أكتوبر المقبل دون أمل كبير في التغيير المطلوب
وكان أنديرس كومباس قد قدم تقريرا داخليا سريا حول إساءة معاملة الأطفال من قبل القوات الفرنسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، إلى السلطات الفرنسية في عام 2014 بعد فشل الأمم المتحدة في الاهتمام بالأمر ووقف الاستغلال. وقد طالت إساءة المعاملة هذه أطفالا جياعا في مخيم مبوكو للنازحين، والإكراه على ممارسة الجنس مقابل الغذاء أو القليل من المال.
فساد مالي وأخلاقي
بدلا من التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عما ثبت أنه جريمة واسعة النطاق، شملت تورط قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، فتح مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية تحقيقا داخليا حول التصرف الذي قام به كومباس.
واتهم الدبلوماسي السويدي السابق بتسريب معلومات، وأدين بـ “سوء السلوك” وتم وقفه عن العمل. ووصل الأمر إلى حد اتهامه بأنه “عميل لحكومة أجنبية وغير جدير بالثقة” عبر الاستشهاد بقضية منفصلة لم تثبت صحتها اتهم فيها كومباس بتقديم معلومات إلى الحكومة المغربية حول قضية الصحراء المغربية، التي بدا انحياز الأمم المتحدة فيها واضحا لطرف دون آخر.
وتحت ضغط من حكومات عدة، كلّف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في نهاية المطاف فريقا مستقلا من ثلاثة أشخاص بمراجعة رد الأمم المتحدة على التقارير المتعلقة بإساءة استغلال الأطفال جنسيا وتعاملها مع كومباس. وبعد تسعة أشهر من تحقيقات قام بها فريق مستقل تمت تبرئة كومباس، فيما دان فريق التحقيق مديرين كبارا في الأمم المتحدة واتهمهم بأنهم “أساؤوا استخدام سلطتهم” في التعامل مع القضية. وشجب “الإخفاق المؤسسي الذريع للأمم المتحدة”، الذي مكّن أيضا من توثيق اغتصاب 13 صبيا على يد 16 من قوات حفظ السلام.
ووجد تقرير الفريق المستقل أن ثلاثة مسؤولين على وجه التحديد قد “أساؤوا استخدام سلطاتهم” وهم؛ باباكار غاي، الممثل الخاص للأمين العام في مينوسكا، وكارمين لابونيت، وكيل الأمين العام لمكتب الرقابة الداخلية، ورينر أونانا، رئيس قسم حقوق الإنسان والعدالة في مينوسكا.
وكان بان كي مون قد أقصى غاي من منصبه في أغسطس 2015 بعد اتهام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة باغتصاب فتاة عمرها 12 عاما وقتل صبي عمره 16 سنة هو ووالده. أما لابونيت، التي بدأت التحقيق الداخلي مع كومباس، فقد استقالت من منصبها في سبتمبر 2015، لكن أونانا لا يزال مسؤولا رفيع المستوى في بعثة الأمم المتحدة في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وطالت الانتقادات الواردة في التقرير، الذي أعده فريق التحقيق المستقل أيضا، سوزانا مالكورا، كبيرة موظفي بان كي مون، بسبب “تضارب المصالح”. فذكر التقرير أنها سهلت عقد اجتماع بين مكتب الرقابة الداخلية ومكتب الأخلاقيات في الأمم المتحدة – وهما هيئتان ينبغي أن تعملا بشكل مستقل عن منظومة الأمم المتحدة – لمناقشة ما يجب فعله إزاء كومباس، غير أن التقرير برّأها من إساءة استعمال سلطتها. واستقالت في نوفمبر 2015، وهي من بين المرشحين لخلافة بان كي مون كأمين عام للأمم المتحدة.
وانتقدت بولا دونوفان، الناشطة في حملة الكود الأزرق التي تستهدف إنهاء الاستغلال الجنسي من قبل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، موقف الأمم المتحدة الذي لم يترك لكومباس أي بديل سوى الاستقالة. وقالت في تصريحات نقلتها عنها إيرين “لا أعرف كيف يمكن لشخص العمل مع نظام يسعى جاهدا لإثبات أن بإمكانه هزيمة كل من يحاول فضحه، رغم كل العبارات المكررة، والتأكيدات بعدم التسامح مع المخالفات، إلا أنها مجرد عبارات فارغة”.
وقضية كومباس واحدة من سلسلة فضائح وقضايا عديدة بخصوص الانتهاكات الجنسية التي ترتكبها قوات حفظ السلام الأممية. كما شهدت السنوات الأخيرة أيضا ارتفاع قضايا الفساد والتجاوزات المالية الكبيرة التي تورط بها عدد من مسؤولي بعثات الأمم المتحدة، خصوصا في دول العالم الثالث، إضافة الى رفض بعثات الأمم المتحدة التعامل بشفافية مع بلدان محددة، كما يذكر التاريخ القضية الأكبر التي انكشفت تفاصيلها عام 2005 والمتعلقة ببرنامج النفط مقابل الغذاء، حيث تم تزوير العقود والمتاجرة بأموال النفط وإدخال مواد غذائية منتهية الصلاحية.
إصلاحات غير مجدية
يتحدث موظف سابق في رسالة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية، دون أن تذكر هوية كاتبها، عن العمل في المقر الرئيسي للمنظمة قائلا “أصبح لدي مكتب (ليس خيمة أو مستودعا)، وهاتف وكمبيوتر وشبكة إنترنت فائقة السرعة. يتجول الزملاء ببدلات أرماني، يحملون القهوة قرابة العاشرة والربع، وينظرون بشفقة مزدرية إلى من انكب جاهدا للعمل قرابة ساعتين متواصلتين. هناك، لا مهمات طارئة، إذ كل شيء بالإمكان أن ينتظر، إنها أوراق لا أكثر”.
وفي هذا الموقع، يقول الموظف السابق، “يمكن لموظف المقر الرئيسي أن يتزوج وينجب الأولاد. فبعد عقود عمل ميداني كانت لا تتخطى الستة أشهر، هنا العقد لمدة سنتين، والراتب الشهري مغر جدا، والضمان الصحي متوفر، والتعليم مجاني للأطفال، عدا معونات الإيجار، والامتيازات، والعلاوة الدورية”.
يكتشف الموظف روعة الحياة في هذه الشبكة المريحة، لكن يبقى ذلك الإحساس الداخلي بالهشاشة، إذ يفهم مع مرور الوقت صعوبة، لا بل خطورة التغيير، أو حتى المحاولة. مصير ذلك الموظف، الذي أصر على فضح التحرش الجنسي لجماعة حفظ السلام بالسكان المحليين، خير مثال، لقد لُفّقت له إحدى التهم الداخلية التافهة، فتراجع منصبه، ونقل للعمل في إحدى الغابات البعيدة”.
وفي شهر إبريل الماضي كشف مكتب التحقيقات الداخلية التابع للأمم المتحدة عن “ثغرات خطيرة وفشل جدي” في تفاعل المنظمة الدولية مع منظمات أخرى ورشى مزعومة تشمل رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبق، جون آش، بحسب وكالة رويترز.
وأصدر المكتب تقريرا سريا يؤكد وجود “انحرافات فاضحة وسلوكيات مشينة لعدد من موظفي الأمم المتحدة، إلى جانب ما يدور في الدهاليز المظلمة من صفقات مشبوهة وتسهيلات للقوى الدولية وتجاوزات للقانون الإنساني”.
يأتي كل هذا في وقت تعاني فيه الأمم المتحدة على الصعيد السياسي من شلل شبه تام في مختلف النزاعات، بسبب انحيازها لأطراف دون أخرى واتخاذ القرارات والمواقف المتناقضة، إضافة إلى الصراعات التي تدور في الكواليس. وقال مراقبون إن الأمم المتحدة تحدد أهدافا لا تستطيع بلوغها وأنها خذلت الفقراء والضعفاء، وأن التعاون بين المنظمات الأممية يشوبه التنافس على التمويل، وإغفال هدف البعثة الأول والتحول إلى بعثات دائمة وانتهاج نهج بائت في إدارة الأعمال.
أمام هذا الوضع المعقد قالت الأمم المتحدة إنها أطلقت حزمة إصلاحات قللت من أهميتها الباحثة في شؤون المنظمات الدولية والحوكمة الدولية تين هانرايدر، مشيرة إلى أن المنظمات الأممية لم تسع إلى صنع إصلاحات ذات معنى استجابة للعالم المتغير وأغلب الجهود الإصلاحية تستهدف “مدخرات النجاعة” من خلال خفض عدد الموظفين والمصاريف العامة.
لكن، إذا لم تتفهم الأمم المتحدة والداعمون لها أن الوضع اختلف والملفات لم تعد تدار من جهة واحدة وأصبحت المشاكل أكثر عمقا والمسؤولون أكثر فسادا والمكاتب أكثر بيروقراطية، فإن “الأمم المتحدة ستنهار ، كما أخفقت عصبة الأمم”، على حد تعبير الدبلوماسي البريطاني كارني روس.