افراسيانت - عمر عبد الستار - أعلن الفريق عبد الغني الأسدي، رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، أمس أنه سيحافظ على عوائل الفلوجة مهما كلفه الأمر، وأن جهاز مكافحة الإرهاب وأفواج طوارئ الفلوجة هم من يقتحمون المدينة فقط.
وجاء إعلان الأسدي، في لقاء تلفزيوني، لطمأنه أهل الفلوجة من الحساسية المفرطة الناجمة عن مشاركة فصائل "الحشد الشعبي" في معركة تحرير الفلوجة. وهذه الحساسية المفرطة، سببها الخوف من تكرار ارتكاب بعض فصائل "الحشد الشعبي" جرائم طائفية بحق سكان الفلوجة؛ وهي جرائم ارتُكبت سابقا، إثر تحرير مناطق سابقة في جرف الصخر وديالى وصلاح الدين.
وربما جاء حديث الأسدي، وعبر قناة فضائية محلية يتابعها غالب الجمهور العراقي، لأجل أن تصل رسالة واضحة محددة من شخصية مهمة شاركت في تحرير الرمادي وهيت، واكتسبت سمعة وطنية مهنية طيبة هناك.
وقد تكتسب كلمة الأسدي أهميتها حين تجد أن بعض مواقع التوصل الاجتماعي العراقية تعج بانفعالات طائفية خارجة عن حدها عند قطاعات عراقية واسعة ، ازدادت مع انطلاق معركة الفلوجة. فهل غاب العقل عند هؤلاء؟ أم أن الممارسات الطائفية، بغياب دولة المواطنة، أقوى من قدرات البشر؟
إن غياب دولة المواطنة وسطوة عوامل اللادولة، سواء تمثل ذلك بسطوة "القاعدة" و"داعش"، أو مليشيات طائفية خارجة على القانون، تُحول الدولة إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف. وهو السبب الأبرز، الذي يقف خلف عدم وجود أي أمان أو ضمان لحفظ حقوق أهل المناطق المحررة من "داعش" بعد طرده، والفلوجة اليوم تبرز مثلا.
فهل تنجح قوات الجيش ومكافحة الإرهاب في معركتها السياسية الكبرى؟ قد تنجح في معركة الفلوجة عسكريا؛ لكن حقوق الناس وحرياتهم لا بد لها من بلد مواطنة. وبلد المواطنة هو البلد الذي يشعر كل فرد فيه بأن حقوقه مصانة، بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه.
ودستور العراق، الذي كتب على عجل في 2005، قد تضمن هواجس لمنع عودة الماضي, لكنه للأسف لم يُنفذ ولم يُحترم بما يكفي لمنع عودة ممارسات عراق ما قبل 2003.
وجدير بالذكر أن غياب المواطنة في العراق، لا يعود إلى عراق ما بعد 2003 فقط، بل هي تراكمات لعراق ما قبل 2003 أيضا؛ ومنها قانون الجنسية الذي وضعه البريطانيون في عام 1924، قبل إقرار الدستور العراقي الأول عام 1925. ثم عمًّقت حكومات الحزب الواحد بعد عام 1968، بغياب الحريات دولة المواطنة.
وأضحى العراق اليوم، وبعد تفجير مكوناته باحتلال 2003، ساحة لتنافس دولي إقليمي ومحلي، على شكل وهوية وطبيعة ودور النظام السياسي في العراق الجديد. وهذا التنافس أفرز صراعا، يمضي هو الآخر إلى توازن قوى على الأرض لا مفر منه.
وعسى أن يمضي هذا التوازن، ولو بعد حين، إلى مصالحة ودستور يحفظ حقوق الناس وحرياتهم. إذ لا يمكن أن يُحترم، كما هو معلوم من معادلة القوة والقانون، حبر القوانين والدساتير قبل توازن القوى بين الأطراف المتنازعة منذ 2003.
وحتى يحين موعد مصالحة عراقية وطنية مرتقب بعد توازن القوى، فإن جزءا كبيرا من تعاطف جمهور المحافظات العراقية التي يحتلها "داعش" مع الحكومة، جاء بعد "وعود" الحكومة بتحييد فصائل "الحشد الشعبي" واستبعادها عن معارك المحافظات التي تحتلها "داعش".
وهنا يطرح سؤال جوهري وإشكالي في نفس الوقت، وهو: من هي الجهة التي يمكن التعويل عليها لضبط تصرف فصائل "الحشد الشعبي"، والتي اعتاد بعضها أن يتوعد الفلوجة وأهلها، ودعشنة من يطرح هذا السؤال، أو يطالب بضمانات على أبواب معركة الفلوجة؟
وقد يكون تكليف الفريق عبد الوهاب الساعدي بقيادة غرفة عمليات تحرير الفلوجة إحدى الضمانات. وقد يكون وجود عبد الغني الأسدي على رأس جهاز مكافحة الإرهاب ضمانة ثانية، وقد تكون متابعة رئيس الوزراء حيد العبادي للمعركة ضمانة ثالثة. غير أنه ومع وجود 44 فصيلا مسلحا خارج إطار الدولة، تبقى الضمانة، في الفلوجة على الأقل، هي تحييد فصائل "الحشد الشعبي" عن معركة الفلوجة، كما قال الأسدي.
وربما هرعت الحكومة إلى معركة الفلوجة لمنع انزلاق الأمور في بغداد وغيرها إلى صراع مسلح بين أطراف "التحالف الوطني"، بعد أن وصلت الأزمة السياسية بينها على تكنوقراط الحكومة إلى طريق مسدود. حيث رأت الحكومة، ربما، أنه لمنع خروج الأمر بين أطراف "التحالف الوطني" الحاكم عن السيطرة، لا بد من التوجه إلى الفلوجة، لما تمثله الفلوجة من رمزية. لكن يجب ألا تكون الفلوجة كبش فداء لصراع أطراف "التحالف الوطني".
ولأجل ذلك، على الحكومة أن تكسب أهل الفلوجة، وهي تقود معركة تحريرها، وأن تضمن لهم حقوقهم وكرامتهم، بمنع "الحشد الشعبي": أولا من المشاركة الفعلية في تحرير الفلوجة، وثانيا، بمنعه من تكرار أي ممارسة طائفية، وثالثا، بإنهاء فوضى السلاح خارج إطار الدولة؛ وأخيرا بالقدرة على الأقل على تنفيذ المادة التاسعة أولا فقرة –ب- من الدستور العراقي، والتي تنص على أنه "يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة".
فهل الحكومة قادرة على تحقيق ذلك؟ وهل الحكومة قادرة أصلا على حل أزمتها السياسية، عبر حل أزمة الفلوجة؟ الجواب عن هذا السؤال متروك لنتائج معركة الفلوجة ومفاجآتها.
لكن إن فشلت حكومة بغداد في إنجاز ذلك، فسيؤدي هذا بمرور الوقت، إلى شرعنة واقعية للطائفية، وهو تخلٍ عن مسؤولية بناء دولة مواطنة قوامها القانون، وتحولُ الطائفية إلى استراتيجية ممنهجة للتنافس على السلطة. وهو للأسف ما شهده عراق 2003 حتى الآن، وإن بدا أن الأحداث قد تعكس بوصلته، ولو بعد حين.