لندن - افراسيانت - قامت تسريبات إدوارد سنودن، وقبله ويكيليكس، بتغيير نظرة الناس لهواتفهم وحواسيبهم، كما أطلقت شرارة نقاش عام حول حماية المعلومات الشخصية بدأت حدته تتصاعد مع تواتر التقارير التي تكشف أن هناك ثغرات في الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر ومختلف الأجهزة الإلكترونية الذكية من ذلك التلفزيونات تستغلها وكالات الاستخبارات وأجهزة التجسس الخاصة في عملياتها في مختلف أنحاء العالم.
ويقول الكاتب النيوزيلندي نيكي هاغرن، في كتابه “الآذان المترصدة.. كيف يتجسسون عليك”، إن “أكثر أنواع الاستخبارات قيمة وسرية وأكثرها غموضا هي الاستخبارات الإلكترونية”. ويطلق على هذا النوع من التجسس مصطلح “استخبارات الإشارات”، ويقصد بها العمليات الاستخباراتية التي يتم جمعها عن طريق التجسس على اتصالات الراديو والهاتف والإنترنت.
وصدرت لهاغرن مجموعة من الكتب تتناول عالم التجسس الذي يصفه الكاتب بـ“العالم القذر”، ومن أبرز مؤلفاته كتاب “القوة السرية: دور نيوزيلندا في شبكة التجسس العالمية”. ونيوزيلندا بلاده عضو في أشهر شبكة تجسس إلكتروني في العالم، يطلق عليها “العيون الخمس”، التي تضم إلى جانب نيوزلندا وكندا وأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية. وقد كشفت تسريبات سنودن عن هذه الشبكة التي تترأسها الولايات المتحدة. وتقضي بتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الحكومات مع الحفاظ على السرية التامة لصيغة هذه الاتفاقيات.
وتسريبات سنودن وغيرها ليست سوى نوع مضاد من التجسس على وكالات التجسس الرسمية العاملة في مختلف أنحاء العالم لعمليات مراقبة وتعقب واسعة النطاق، عبر البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية وفيسبوك والتليكسات وغيرها.. للأفراد كما للدول والمنظمات.
وتشير المحللة في مجلة فورين افيرز جنيفير دسكال إلى أنه بعد تسريب سنودن، في سنة 2013، للآلاف من الوثائق شديدة السرية، ناضلت الحكومة الأميركية من أجل تبرير برامجها التجسّسية المترامية الأطراف.
وفي محاولة لجعل هذه البرامج لجمع المعلومات أكثر شفافية وشرعية أسست إدارة باراك أوباما مجموعة مراجعة خاصة وأحيت هيئة مراقبة للخصوصية كانت نائمة وأصدرت أمرا تنفيذيا يتعهد باحترام حقوق الخصوصية لغير الحاملين للجنسية الأميركية في الخارج.
واتخذت شركات التكنولوجيا والاتصالات الأميركية (التي كشفت وثائق سنودن عن تواطئها) موقفا دفاعيا، إذ سعت إلى تبرير تعاونها السابق ونأت بنفسها عن الحكومة وذلك للحفاظ على قاعدة الحرفاء الدوليين.
وفي سنة 2015 دخل الكونغرس الأميركي النزاع عن طريق كبح جماح ما يسمى برنامج البيانات الوصفية، أي الجزء الأكبر من البيانات لدى وكالة الأمن القومي الخاصة بأرقام الهاتف والمكالمات الخارجة والداخلة، وهي بيانات يمكن استخدامها لرسم خارطة لشبكة علاقات شخص ما.
والبريطانيون، بمجموعتهم الخاصة من القدرات الاستخباراتية المتطورة، ما فتئوا يتصارعون مع الكثير من المشاغل نفسها. ففي خريف سنة 2016 صادق البرلمان على قانون الصلاحيات التحقيقية، الذي يسميه الخصوم “ميثاق المتلصصين”، لكن يصوره المدافعون عنه على أنه نص تشريعي آن أوانه بأن يضع الضوابط لما يمكن للحكومة فعله فيما يتعلق بالتجسس.
وكما هو الشأن بالنسبة إلى أغلب المسائل الخلافية فهناك عنصر حقيقة في جانبي النقاش، إذ يعطي هذا القانون أجهزة الاستخبارات الحق في جمع كميات كبيرة من المعلومات بتفويض واحد، ويسمح للمحاكم بإجبار الشركات الخاصة على المساعدة في فك شيفرة الاتصالات (وهو تطور يثير المخاوف حول الخصوصية وأمن الشبكات).
لكنه أيضا يضيف ضوابط وإجراءات حماية في أماكن لم تكن موجودة من قبل، فلأول مرة في تاريخ المملكة المتحدة تخضع التفويضات للتنصّت على الاتصالات لمراجعة قضائية، بينما كانت السلطة التنفيذية سابقا قادرة على تنفيذها بناء على ادعاءاتها.
القرارات التي يتخذها القطاع الخاص في مجال التجسس تكتسب أهمية كبرى، ففي كل يوم تتخذ الشركات خيارات بخصوص ما تجمعه وأين تخزن المعلومات وهل تشفر وماذا تشفر وكيف وهل ومتى ترضخ لمطالب الحكومة بإمدادها بالمعلومات أو تقاومها. وهذه القرارات بدورها تحدد ما هي المعلومات المتوفرة للحكومة حتى تجمعها.
الجيل الرابع
التجسس عملية قديمة قدم الإنسان. وفي الماضي كانت الاستخبارات البشرية الأكثر اعتمادا، وهي العملية الاستخبارات المستخلصة من العملاء الجواسيس والخلايا النائمة. وشأنها شأن الكثير من الممارسات فقد تطورت عمليات التجسس مع تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال، وساعد التقدم التقني والرقمي في تطور عمليات التجسس والتنصت وأصبحت وكالات الاستخبارات تعتمد كثيرا على التجسس الإلكتروني الذي وصفه نيكي هاجرن التجسس بـ“الجيل الرابع من الحروب”، وتنوّعت مصادرة المعلومات وآليات الحصول عليها، من أمثلة ذلك:
*استخبارات المصادر المفتوحة: وهي العمليات الاستخباراتية المستخلصة من المصادر المفتوحة مثل الإنترنت.
*استخبارات الاتصالات: التنصت على الاتصالات واعتراضها مثل التنصت على المكالمات الهاتفية) ويضم استخبارات الإشارات والاستخبارات الإلكترونية.
*الاستخبارات بالأقمار الصناعية: توفر مجموعة من المعلومات المستخلصة من عدد من أصول التجميع مثل الأقمار الصناعية الاستطلاعية أو طائرات المراقبة.
*الاستخبارات الفنية: تعتمد على خصائص علمية وفنية في أنظمة الأسلحة والأجهزة التقنية وغيرها.
ولا تقتصر عمليات التجسس على الوكالات الرسمية المعروفة، حيث توجد شركات خاصة تقوم بهذه المهمة يصفها الكاتب رودري جفريس جونس في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان “نحن نعرف كل شيء عنك” بـ“العيون الخاصة”.
ويضع الكتاب النقاشات المعاصرة حول التجسس، التي يعرفها هو على أنها “التجسس على نطاق واسع”، في سياق تاريخي ومقارن. ويروي جفريس جونس باقتدار حكاية الاستخبارات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من بداياتها في القرن الثامن عشر إلى اليوم.
وتقدم جنيفر دسكال قراءة لهذا الكتاب مشيرة إلى أن ما يجعله فريدا من نوعه ليس حديثه عن التجسس الحكومي (الذي كُتب عنه الكثير) بل تركيزه على دور الشركات الخاصة فيه.
شركات التجسس
مثلما يقول جفريس جونس “التجسس ليس امتيازا تنفرد به الحكومات، بل هو شيء طوره الفاعلون الخواص واعتمدوا عليه”. وفي الجنوب الأميركي قبل الحرب الأهلية، كان أصحاب المزارع يستأجرون رجالا من البيض لمراقبة تحركات العبيد وجمع المعلومات الاستخباراتية عن انتفاضات محتملة. وفي الشمال شرع تاجر في نيويورك اسمه لويس تبان ما كان بالأساس مكتب قروض، ولتحديد استحقاق الحرفاء للقروض، كونت الشركة قاعدة معلومات عن أصلهم العرقي وأعمارهم وتاريخهم المهني وإدمانهم على الكحول وحتى ميولاتهم الجنسية.
وبزيادة انتشار النشاط الصناعي لجأت الشركات الخاصة إلى التجسس كطريقة لإفشال العمل النقابي. ويروي جفريس جونس قصصا مثيرة عن شركات أميركية وبريطانية وظّفت مخبرين خواص للتجسس على العمال ومراقبة قادتهم. وعندما يتم تحديد شخص على أنه مخرّب يخسر كل شيء، إذ يطرد من العمل ويوضع في قوائم سوداء تجعله غير قابل للتشغيل في أماكن أخرى.
جهاز تنصت على المكالمات (1950).
وفي الخمسينات من القرن العشرين سهّلت أستوديوهات هوليوود ظاهرة الماكارثية عن طريق إخبار المحققين المكلفين من الحكومة عن المخربين الشيوعيين المزعومين، مما تسبب في تدمير المسيرات المهنية لأعداد لا تحصى من كاتبي السيناريو والمخرجين والممثلين.
وحتى الصحافة دخلت لعبة التجسس. ويحكي جونس عن قصة أخبار العالم، وهي صحيفة شعبية بريطانية تعقّبت عائلة تبحث عن ابنتها الضائعة في سنة 2002.
وقامت الصحيفة بمتابعة حركات العائلة في سرية تامة وصورت وجوههم الحزينة وقرصنت بشكل غير قانوني الرسائل الصوتية للطفلة الضائعة. ويستنتج جفريس جونس بالقول “فيما يتعلق بالأذى الذي يلحق بالناس بشكل يومي، فإن التجسس الخاص أحسن أداء من نظيره العمومي”.
ولكن على الرغم من أن جفريس جونس يوثق جزءا كبيرا من الضرر الذي ألحقه الفاعلون الخواص، من المبالغة الادعاء بأن التجسس الخاص يسبب ضررا أكبر من التلصص الحكومي. بعد كل شيء، الدولة هي الجهة الوحيدة التي تستطيع استعمال المعلومات التي يتم الحصول عليها عن طريق التجسس لحبس الأشخاص أو حتى قتلهم بشكل قانوني. وبكل المقاييس، فإن مسألة أي جهة أسوأ ليست لها أي صلة بالموضوع، فالشيء المهم حقا هو حقيقة وجود التجسس العمومي والخاص ومخاطر سوء الاستعمال من القطاعين، والتفاعل بينهما.
وبالفعل تكتسب القرارات التي يتخذها القطاع الخاص وقعا هائلا على حجم التجسس الحكومي، ففي كل يوم تتخذ الشركات خيارات بخصوص ما تجمعه وأين تخزّن المعلومات وهل تشفّر وماذا تشفّر وكيف وهل ومتى ترضخ لمطالب الحكومة بإمدادها بالمعلومات أو تقاومها. وهذه القرارات بدورها تحدد ما هي المعلومات المتوفرة للحكومة حتى تجمعها.
وزيادة على ذلك، ومثلما يبيّن جفريس جونس، يسمح الباب الدوّار بين القطاعين العمومي والخاص للجانبين بتبادل التقنيات. وفي نهاية القرن التاسع عشر مثلا طور رالف فان ديمان، وهو ضابط عسكري أميركي متمركز في الفلبين، نظام تأشيرة وتصنيف يمكن للقادة العسكريين الأميركيين استعماله لتحديد المتمردين على الميدان. وبعد مغادرة الحكومة استعمل مهاراته لتقفي العمال النقابيين لمصلحة المصنعين في كاليفورنيا، وفي بعض الأحيان يرسل عملاء إلى الاجتماعات النقابية للتجسس على العمال وتقديم تقرير. وعند وفاة فان ديمان في سنة 1952 بلغ عدد المخربين المزعومين في قائمته أكثر من 125 ألف فرد.
وهناك أيضا قصة وليام رجينالد هول، وهو ضابط استخبارات بريطاني كان يدير وحدة فك الشيفرات في الحرب العالمية الأولى. وبعد خروجه من الحكومة أحدث مجموعة أصبحت تعرف باسم الرابطة الاقتصادية، وهي عبارة عن جمعية قوية وغامضة من الصناعيين كانت تتبع الناشطين النقابيين وتضعهم في قوائم سوداء لفائدة القطاع الخاص. ونتيجة لذلك فقدت أعداد كبيرة من العمال وظائفهم أو حرموا من العمل.
وكما يذكّر جفريس جونس بمد وانحسار الشراكات بين القطاعين العمومي والخاص. وفي سنة 1919 رفضت شركة ويسترن يونيون في البداية منح ترخيص للغرفة السوداء (وهي وكالة حكومية أميركية لفك الشيفرات وسلف وكالة الأمن القومي) للنفاذ إلى الرسائل التلغرافية عند عبورها المحيط الأطلسي. ولكن مع نهاية العام كانت الحكومة قد قدّمت ما يكفي من الحجج لتوافق ويسترن يونيون وشركات خدمات تلغرافية أخرى على خطة التجسس.
وبعد مرحلة فتور مؤقت للتعاون بين الحربين بدأ التعاون مرة أخرى في الأربعينات، مما أدى إلى ما يسمى مشروع شامروك الذي خول للحكومة الأميركية دون أمر قضائي قراءة مئات الآلاف من الرسائل التلغرافية بين القاطنين في الولايات المتحدة والمتلقين الدوليين. واستمر مشروع شامروك عقودا من الزمن ولم تغلقه وكالة الأمن القومي إلا بعد قيام “لجنة الكنيسة” بفضحه في السبعينات. وكانت هذه الحلقة نذيرا لعلاقة القطاع الخاص مع نشاط الجوسسة الحكومية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث وفرت الشركات تعاونا واسعا في البداية، ثم تراجعت عنه بعد نشر سنودن للوثائق.