افراسيانت - لموسم جني الزيتون لدى الفلسطينيين طقوس عدة غاب أغلبها، لكن عائلات فلسطينية مازالت تحتفظ ببعض هذه العادات والتقاليد. والزيت أهم منتجات فلسطين وله درجاته ومستوياته في المذاق والجودة وتركيز الحمض والتأثير الصحي ومن ذلك زيت البدودية، واسمه مأخوذ من حجر البَدّ، وهو الحجر الذي يستخدمه قدماء فلسطين في استخراج الزيت.
يمسك أيوب سرور الحجر بكلتا يديه، يتعبه تحريكه المستمر له لفترة طويلة، ثم يقلب حبات الزيتون ليتأكد من دهسها كلها، ويعيد تحريك الحجر مرة أخرى.
يأخذ حجرا كان قد ألقاه في النار ويضعه على حبات الزيتون، يبدأ صوت “الطشة” بالارتفاع، وبعد فترة قليلة يقترب ليتذوق الزيت الذي خرج للتو، ثم يقول “مرارة المذاق قد ذهبت”.
يضطر الواقف إلى الركوع والانحناء ليرى لمعان الزيت وهو ينساب ببطء نحو الحفرة التي يتجمع فيها لإنتاج كمية معينة، هي ذاتها الطريقة التي علمه إياها والده، والتي أتقنها من جده، ولا يقدر أن يتخلى عنها.
ينتظر خروج الزيت قطرة قطرة، يحتاج الأمر لفترة طويلة، يقف ويمسح العرق الذي يتصبب من جبينه طوال فترة تحريكه للحجر، يمسح جبينه بيديه الممزوجتين بالزيت الذي ينساب إلى ثنية عباءته، يتشكل خطان من اللون الأسود الذي التصق بيديه بفعل عصر الزيتون وتحريكه.
أيوب سرور (47 عاما) من قرية نعلين غرب رام الله، مازال يستخدم “البدودية” منذ عقود إلى اليوم، ويعيد التراث القديم الذي بدأ بالاختفاء شيئا فشيئا. و”البدودية” عبارة عن هرس الزيتون بحجر كبير، وبسبب شدة الضغط يبدأ الزيت بالسيلان ببطء في حفرة صخرية.
هذا الزيت يسمى زيت البدودية، واسمه مأخوذ من حجر البَدّ، وهو الحجر الذي يستخدمه قدماء فلسطين في استخراج الزيت، وكانت المعاصر الكبيرة تستخدم البدّ المكون من جرين كالرحَى في عصر الزيتون عبر قرون طويلة قبل أن تأخذ مكانَها المعاصر الآلية الحديثة.
وزيت الزيتون هو الأغنى بمضادات الأكسدة وبالزيوت الأحادية غير المشبعة من بين جميع أنواع الزيوت النباتية والتي لا تتأكسد في الجسم.
“مفيد جدا للجسم، يساعد في منع أمراض القلب وتلف الأوعية الدموية، والتمتع بجهاز هضمي صحي، يقوي العظام والمناعة لدى الإنسان، كثير من الناس يلجأون لي لغرض العلاج، وقد ورثنا ذلك عن الرومان”، هذا ما قاله أيوب عن زيت البدودية.
وقد عرف الطب الشعبي الفلسطيني فوائد زيت الزيتون حيث استعمل لتقوية جذور الشعر ومنع تساقطه، ولمعالجة الحكة والقمل، ومرهما لتخفيف آلام المفاصل.
الناس في السابق كانوا يجتمعون ويقيمون حفلة بين أشجار الزيتون ويقومون بعمل البدودية.
كما استعمل الزيت لمعالجة مشاكل الجهاز التنفسي، والسعال وأمراض الجهاز الهضمي، وحصى المرارة، وتقوية الأسنان والفكين، وفي علاج أمراض الأذن. وكذلك استخدم مسحوق أوراقه لعلاج الجروح والصدفية، ومغلي أوراقه لتخفيض ضغط الدم المرتفع ومرض السكري ولمشاكل البروستاتا وأمراض الجهاز البولي.
وللزيت استعمالات تجميليّة كثيرة مثل ترطيب الجلد وتقوية وصبغ الشعر والوقاية من التجاعيد ويدخل في صناعات الصابون البلدي والكريمات.
وبعد قرابة الساعة، تجمع الزيت في الحفرة، أحضر أيوب صحنا ووضع الزيت بداخله، مع العلم أنه في هذه الفترة قد يجمع أي مزارع عشرات الكيلوغرامات من الزيت في حال ذهابه الى أي معصرة حديثة، معلقا على ذلك أن الناس كلهم يذهبون هناك إلا القلة الذين حافظوا على تراث أجدادنا وعاداتهم القديمة، فضلا عن فوائده أكثر من العصر على الآلات.
وما بين خطوة وأخرى، يردد أغنية “نغني ع البداوية”… وحين السؤال عن السبب أجاب أن أصل الأغنية من البدودية، والبداوية أصلها البدّ. الناس في السابق كانوا يجتمعون ويقيمون حفلة بين أشجار الزيتون ويقومون بعمل البدودية.
وخطوات عمل البدودية، هي قطف حبات الزيتون وجمعها في إناء، ومن ثم وضعها على النار لعدة دقائق حتى يخرج الماء من داخلها. ومن ثم تنقل حبات الزيتون الى مكان مخصص وهي الصخور المنحوتة لدقها بصخرة متوسطة الحجم وطحن نواة الثمار الصلبة، حتى يسهل عصرها. وبعد ذلك توضع وسطها حجارة صغيرة ثم حرقها حتى تصبح حرارتها عالية، والهدف طرد مرارة المذاق.
الخطوة الأخيرة، توضع في كيس وفوقها أحجار كبيرة ليبدأ الزيت بالانسياب والتجمع في الحفرة الصغيرة.
وتعتبر فلسطين منذ القدم مركزا رئيسيا لإنتاج الزيتون، وتكفي المعاصر الكثيرة التي حفرت في الصخور والمنتشرة في مختلف القرى والبلدات الفلسطينية، لتكون مؤشرا على ذلك، ومعظم هذه المعاصر المهملة حاليا تعود إلى أيام الرومان والبيزنطيين والعصور اللاحقة.
قديما، كان الأجداد يلجأون إلى عصر حبات الزيتون دهسا بالأقدام، أو عبر “الرحى”، وهي عبارة عن قطعتين مستديرتين من الحجر توضع بينهما الحبات وتداران باستمرار حتى تعصر بشكل كامل.
لكن ومع وصول الوسائل الحديثة والآلات والمعدات التي تعصر الزيتون بشكل أكبر وبوقت أقل، أصبحت “البدودية” جزءا من التراث والتاريخ القديم.
انتهى سرور من تجميع الزيت في الصحن، وقام بإغلاق الحفرة بحجر كبير، ثم ذهب للجلوس تحت شجرة ودعا الحاضرين للقدوم وتذوق الزيت الذي استمر عمله أكثر من ساعة، قائلا “طعمه يبقى في فمك أكثر من أسبوع”.