خريف العام 2014 شهدت ولايات أمريكية احتجاجات عارمة على عنف الشرطة بحق شبان من أصول أفريقية، فاتحة جرح "التمييز العنصري" الذي لم يندمل، مؤكدين أن "حياة السود ليست رخيصة".
أفراسيانت - "لدي حلم" لا يزال صدى تلك العبارة الشهيرة التي رددها الزعيم الأمريكي الراحل مارتن لوثر كينغ أمام مسامع الملايين من الناس في الولايات المتحدة مدويا، وبعد أكثر من 50 عاما لم يتحقق الحلم، ولا يزال الشرطي الأمريكي الأبيض يقتل المواطن الأمريكي "الزنجي".
مقتل مايكل براون على يد شرطي أبيض يشعل صيف الولايات المتحدة
في الـ 9 من أغسطس/آب لقي الشاب من أصول إفريقية مايكل براون مصرعه بعد إطلاق النار عليه 6 مرات على الأقل من قبل ضابط شرطة يدعى " دارن ويلسون" وهو أبيض البشرة.
وأفادت معلومات من دائرة الشرطة في فيرغسون بأن مايكل براون سرق علبة سجائر قيمتها 49$ من متجر قبل أن يطلق عنصر الشرطة النار عليه ويقتله.
أدى هذا الحادث إلى حركة احتجاج شعبية تحولت إلى عمليات نهب للمحال التجارية في مدينة فيرغسون التابعة لولاية ميزوري الأمريكية، ما استدعى تدخل القوات الأمريكية الخاصة ورجال الشرطة لفرض النظام، وتم إغلاق المنطقة ومحاصرتها لوقف حالات النهب والتخريب التي رافقت الاحتجاجات.
في الـ 13 من أغسطس/آب استعملت الشرطة الغاز المسيل للدموع والقنابل لتفريق المحتجين على مقتل الشاب براون بعد أن عمدوا إلى حرق محطة للوقود بفيرغسون في ضاحية سانت لويس.
أصيب حينها شاب مسلح بجروح خطيرة في مكان غير بعيد عن موقع التظاهرات، بينما أوقفت الشرطة صحفيين 2 يعملان في "واشنطن بوست" و"هافغتن بوست"، قبل أن تفرج عنهما دون أن توجه إليهما أي اتهام.
14 أغسطس/آب: أوباما يدعو للتهدئة في فيرغسون
ومع تواصل الاحتجاجات خرج الرئيس الأمريكي ليدعو إلى "السلام والهدوء" في فيرغسون وإلى تكليف شرطة الولاية بتولي الأمن في المدينة، التي تعهدت الشرطة من فيرغسون بالكشف عن هوية الشرطي، قاتل براون.
في الـ 17 من أغسطس/آب، مرة أخرى تستخدم الشرطة الأمريكية قنابل الدخان ضد المحتجين في مدينة فيرغسون بولاية ميزوري بعد أن رفض عدد منهم الالتزام بحظر التجوال الذي فرضه محافظ الولاية في الـ 16 من أغسطس/آب. غداة أعمال السرقة والنهب التي طالت العديد من المحال التجارية. وبقي نحو 200 شخص في الشوارع بعد سريان الحظر، أي بعد منتصف ليل الأحد 17 أغسطس/آب، ورفضوا الامتثال لمطالب الشرطة مرددين هتافات مطالبة بـ "العدالة".
في الـ 18 أغسطس/آب استنجد حاكم ولاية ميسوري جاي نيكسون بقوات الحرس الوطني الأمريكي التي وصلت إلى مدينة فيرغسون، لإعادة الهدوء إلى المدينة المشتعلة بالاحتجاجات.
وبدأت الشرطة بتفريق المتظاهرين قبل نحو ثلاث ساعات من موعد سريان حظر التجوال الليلي في حي سانت لويس حيث تجري الاضطرابات، بينما رفع بعض المتظاهرون لافتات تندد بعنف الشرطة، بحسب ما أظهرت مشاهد بثتها محطات التلفزيون.
مقتل شخص بنيران عناصر الشرطة قرب فيرغسون وإيقاف 47 محتجا
في مدينة سانت لويس على بعد 6 كلم فقط من مدينة فيرغسون المشتعلة بالاحتجاجات، لقي المواطن الأمريكي كاجيمي باول (25 عاما) مصرعه في الـ 19 من أغسطس/آب عندما حاولت الشرطة توقيف شخص يشتبه بضلوعه في أعمال نهب أحد المتاجر.
وقد أظهرت لقطات فيديو تم نشره على شبكة الإنترنت أن باول بالفعل اتجه إلى رجال الشرطة، ولكنه لم يقترب إلى المسافة التي تحدث عنها رئيس الشرطة، وكانت يداه إلى جانبه، وقد بدأ الضابطان بإطلاق النار قبل 15 ثانية من وصولهما، وأصابا باول بوابل من الرصاص.
هذا الحادث، إضافة إلى لقطات فيديو لعملية سابقة تظهر مقتل رب أسرة أمريكي خنقا، وعمليات القمع التي ينفذها رجال الشرطة، كلها ساهمت في امتداد نار الاحتجاجات إلى خارج ولاية ميزوري، حيث تظاهر في 23 أغسطس/آب في نيويورك الآلاف احتجاجا على مصرع غارنر، وهو رب عائلة أسود لقي مصرعه خلال اعتقاله.
وكان عدد كبير من رجال الشرطة البيض قاموا في 17 تموز/يوليو الماضي بطرح إريك غارنر أرضا عندما حاول مقاومتهم أثناء اعتقاله للاشتباه في قيامه ببيع سجائر بصورة غير شرعية.
وفي شريط فيديو صوره أحد الهواة يظهر رجل شرطة يضغط على رقبة غارنر البدين (43 سنة)، المصاب بحساسية ربو، وشكى أكثر من مرة من أنه لا يستطيع التنفس قبل أن يغيب عن الوعي وتعلن وفاته في المستشفى.
وهتف المتظاهرون "لا أستطيع التنفس" ورفعوا لافتات تقول: "حياة السود ليست رخيصة"، كما طالب بعضهم بالقبض على الشرطي دانييل بانتاليو.
في الـ 30 من أغسطس/آب تجددت الاحتجاجات على مقتل الأمريكي الأسود الأعزل مايكل براون، في شوارع مدينة فيرغسون بولاية ميزوري الأمريكية حيث طالب المحتجون بتطبيق العدالة، والكف عن حالات القتل والتستر التي تقوم بها الشرطة.
وزير العدل الأمريكي إريك هولدر يأمر بفتح تحقيق فدرالي
أعلن وزير العدل الأمريكي أريك هولدر في الـ 4 من سبتمبر/أيلول فتح تحقيق فدرالي جديد في ممارسات الشرطة بفيرغسون وتم تكليف هيئة محلفين من مقاطعة سانت لويس باتخاذ قرار حول ما إذا كانت ملاحقة الشرطي دارين ولسن (28 عاما)، قاتل الشاب براوان، ممكنة قضائيا.
لكن تواصل العنف الذي اندلع على خلفية التوتر العنصري في فيرغسون وسط البلاد، دفع هولدر للاستقالة في 25 من سبتمبر/أيلول، إلا أن هولدر بقي في منصبه إلى حين تعيين خليفة له وتثبيت تعيينه من قبل مجلس الشيوخ، وهو أمر يتطلب عدة شهور.
في تطور خطير للاحتجاجات في فيرغسون، تعرض شرطي أمريكي يوم 27 سبتمبر/أيلول إلى طلق ناري، وأعلن الناطق باسم شرطة مقاطعة سانت لويس أن "الضابط تعرض لإطلاق نار"، دون أن يدلي بتفاصيل أخرى حول الظروف المحيطة بالحادث.
ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الاحتجاجات ضد السلطات الحكومية حيث عمت المظاهرات العديد من المدن الأمريكية وردد المحتجون ومن بينهم آباء وأبناء "لا عدل..لا أمان..لا للشرطة العرقية" و"ارفع يدك ولا تطلق الرصاص". ورفع محتجون لافتات كتب عليها "كل الناس سواسية"، حيث عمدت أجهزة الشرطة إلى احتجاز العشرات من المتظاهرين بمن فيهم الصحفيون.
هيئة محلفين عليا ترفض توجيه اتهام لقاتل براون
وفي الوقت الذي أصدرت فيه السلطات القضائية وسلطات مقاطعة سانت لويس "خلاصة تحقيقها الجنائي المستقل" أعلن حاكم ميزوري جاي نيكسون يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني حالة الطوارئ نشر شرطة ولاية ميسوري ووضع قوات الحرس الوطني (الدرك) في فيرغسون في حالة تأهب بسبب "أعمال عنف محتملة لمدة ثلاثين يوما."
وفي الـ 25 من نوفمبر/تشرين الثاني قررت هيئة محلفين عليا بالولاية عدم توجيه اتهام لضابط الشرطة الأبيض في حادث مصرع الفتى مايكل براون، ما تسبب في موجة احتجاجات عارمة تخللتها أعمال عنف ونهب منشآت وإحراق سيارات شرطة.
الأمر الذي عقب عليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه ستجري معاقبة المشاركين في هذه الاضطرابات وفق القانون، معلنا عن مشاورات بين المجتمع المدني والأمن بهدف منع تكرار مثل هذه الأحداث.
وفي سابقة فريدة منذ اندلاع الاحتجاجات، تجمع عدد من المتظاهرين المتضامنين مع احتجاجات مدينة فيرغسون الأمريكية يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني أمام مبنى القنصلية الأمريكية في مدينة ميلانو الإيطالية،حيث ارتدى بعض المتظاهرين أقنعة خلال الاحتجاجات، وقاموا بإلقاء ألعاب نارية على مبنى القنصلية الأمريكية، كما حملوا لافتات تندد بعنف الشرطة الأمريكية الموجه في الأساس ضد الشباب من أصل إفريقي.
هيئة محلفين ثانية تقرر عدم توجيه الاتهام لشرطي أبيض مسؤول عن مقتل غارنر
قررت هيئة محلفين ثانية في 3 من ديسمبر/ كانون الأول عدم توجيه الاتهام لشرطي أبيض مسؤول عن مقتل الرجل الأسود إريك غارنر في نيويورك في ثاني قرار لصالح قوات الأمن في غضون أسبوعين بعد قضية فيرغسون.
وخرجت على إثرها احتجاجات كبيرة في العديد من المدن الأمريكية، واجهتها الشرطة كالعادة بحملة اعتقالات طالت أكثر من 80 شخصا في مدينة نيويورك.
تزامن ذلك مع سقوط ضحية رابعة حين أقدم شرطي أبيض الخميس 4 ديسمبر/كانون الأول على قتل أمريكي من أصل أفريقي يدعى رومين بريزبون (34 عاما) بالرصاص أثناء محاولة اعتقاله لاشتباهه بحيازة السلاح.
ومع تواصل الاحتجاجات في مناطق عدة من الولايات المتحدة اعتقلت الشرطة الأمريكية يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 232 شخصا في مدينتي أوكلاند وبيركلي بولاية كاليفورنيا، ووجهت إليهم اتهامات بعدم الخضوع للأجهزة الأمنية، والتسبب في أضرار لضباط الشرطة وإتلاف ممتلكات عامة، وحددت للبعض منهم كفالة بمبلع 50 ألف دولار.
إدانة دولية نادرة لتجاوزات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة
وفي أول رد فعل أممي على تلك الأحداث، دعت الأمم المتحدة في 5 من ديسمبر/كانون الأول السلطات الأمريكية إلى احترام حرية التعبير، مطالبة إياها بتعزيز محاسبة رجال الشرطة على أفعالهم.
وعبرت منظمات حقوقية ومؤسسات دولية عن قلقها بشأن عنف الشرطة الأمريكية والاستخدام المفرط للقوة من قبل رجال الشرطة ضد المحتجين السلميين وكذلك الاعتقالات، بما فيها اعتقال الصحفيين، ناهيك عن قضية التمييز العنصري.
وكان الأمين العام لمجلس أوروبا ثوربيورن يغلاند قد أكد في أغسطس/آب أن أعمال الشرطة الأمريكية هذه "تعد خرقا لحقوق الإنسان"، داعيا السلطات إلى إيلاء اهتمامها للوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي دفع المحتجين للخروج إلى الشوارع.
وفيما اعتبره البعض ردة فعل من الطرف المقابل قُتل رجلا شرطة في ولاية نيويورك بطلق ناري نفذه شاب من أصول إفريقية قالت السلطات إنه انتحر بعد ذلك.
وقبل ذلك أشار الشاب إسماعيل بريسنلي (28 عاما)، على موقع للتواصل الاجتماعي على الانترنت الى أنه قد ينتقم لقتل الشرطة الأمريكية رجالا عزل من أصول إفريقية في الآونة الأخيرة .
وأظهر مقتل الشاب مايكل براون وغيره على يد الشرطة الأمريكية حجم مشكلة عنف الشرطة والتمييز العنصري ضد السكان السود في الولايات المتحدة، والذين لا يزالون فئة مهمشة في المجتمع الأمريكي تعاني أكثر من غيرهما من مشاكل الفقر والبطالة وتدني مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية.
ويبدو أن وضع السود لم يتغير كثيرا مع وصول أول رئيس أسود إلى الحكم في الولايات المتحدة.
وأثارت حوادث قتل سود متكررة وتبرئة الشرطي ويلسون مؤخرا تساؤلات كثيرة حول تحيز أجهزة الأمن والقضاء في الولايات المتحدة، التي تسمح سلطاتها لنفسها بالتدخل في شؤون غيرها من الدول بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان..
تجاوزات الشرطة والقضاء الأمريكيين دفعت الرئيس الأمريكي بارك أوباما إلى الاعتراف بأن " التحيز العنصري الحاضر في المنظومة القضائية هو "مشكلة أمريكية"، وإن كان تراجع بعد يوم من هذا التصريح ليؤكد في تصريح لمحطة NHR أن "المجتمع الأمريكي اليوم أقل انقساما على أساس عرقي من ست سنوات مضت"، في إشارة ربما إلى أن هذه الاحتجاجات لايمكن في أي حال من الأحوال أن تتطور إلى "خريف أمريكي" عاصف.