افراسيانت - بعد دقائق قليلة من إعلان دولة الاحتلال الإسرائيلي في 14 مايو 1948، كانت أمريكا أول دولة تعترف بالاحتلال، تحت إرادة الرئيس هاري ترومان، ومن حينها بدأت في تقديم «مشروعات تسوية» لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، على غرار مشروع الرئيس الحالي دونالد ترامب المعروف بـ«صفقة القرن»، لكنها كانت تبوء بالفشل في كل مرة.
البداية كانت مع الرئيس دوايت أيزنهاور الذي أرسل وزير خزانته لمقابلة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في القاهرة أواخر عام 1955، لعرض صفقة تقايض الصلح مع إسرائيل بعرض مالي سخي لتمويل مشروع السد العالي.
تحطمت آمال أيزنهاور، قائد جيوش الحلفاء في الحرب الثانية، على صخرة الحس القومي للزعيم عبدالناصر الذي أوحى إلى مبعوث الرئيس الأمريكي، روبرت أندرسون، برفضه للصفقة، وصرح بأن موقفه يتلخص في نقطتين؛ الأولى أن «فلسطين ليست قضية مصرية، بل قضية تهم العالم العربي بأسره، ويصعب على مصر أن تنفرد فيها برأي، والثانية أنه على استعداد للقبول بقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947».
الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، يقول إن «الصراع العربي الإسرائيلي مرتبط بمعتقد ديني لدى الأمريكيين الدينيين البروتستانت، ومن الصعب المساومة عليه. هذا المعتقد نشأ منذ مئات السنين، عندما خرج القس مارتن لوثر كينج على الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا».
يضيف «الدسوقي»، لـ«المصري اليوم»، أن لوثر كينج ترجم الإنجيل إلى الألمانية لكشف عورات الكاثوليك، وبدأت الحرب بين الكنيسة وأتباعه البروتستانت مطلع القرن الـ16، وكتب لوثر كينج مقالة في نوفمبر 1517 يقول فيها: المسيح ولد يهوديًا فلماذا نكره اليهود؟ من هنا بدأ انضمام اليهود إلى دعوته، وسمى نفسه الإنجيلي أي الملتزم بنصوص الإنجيل وليس بما يجيئ على لسان القساوسة، ولكن الكاثوليك أطلقوا عليه اللقب نفسه ولكن بمعنى المحتج».
تعرض الإنجيليون البروتستانت للاضطهاد على يد الكنيسة، حسب «الدسوقي»، وفروا من ألمانيا وأوروبا إلى الولايات المتحدة المكتشفة حديثًا، وشكلوا فيها جماعة سياسية تجمع بين اليهود والإنجيليين، قوامها معتقد ديني بأن المسيح سيعود ويحكم ألف عام، أو ما يعرف بالحكم الألفي، ووافق اليهود على الحكم الألفي مقابل إعادة بناء الهيكل الذي حطمه تيتوس الروماني، من هنا بدأ التحالف الذي وصل إلى تعانق أفكار الأمريكيين البروتستانت مع حلم اليهود بإقامة الدولة».
استمر التحالف الأمريكي الصهيوني منذ ذلك الحين وحتى الآن، يقول «الدسوقي»: «لا يوجد رئيس أمريكي يخرج على هذا التحالف، الوحيد الذي خالفه جون كينيدي الذي تولى الحكم عام 1961 واغتاله اليهود أواخر 1963؛ لأنه كان كاثوليكيًا وليس إنجيليًا، وكان متفهم مع جمال عبدالناصر في قضية فلسطين، وهناك رسائل بينهما»، مؤكدًا أن «أحد أسباب اضطهاد هتلر لليهود أنه كان كاثوليكيًا، رغم أن المذهب السائد في ألمانيا كان البروتستانتية، ولكن هتلر كان يكره اليهود».
يشير «الدسوقي»، عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، إلى «دور المصالح الاقتصادية في تعزيز الرابطة الدينية بين الصهيونية وأمريكا، من خلال اللوبي اليهودي الذي مارس ولا يزال ضغوطًا على الرأي العام الأمريكي. وبعد 3 سنوات من قيام دولة الاحتلال، وقعت الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقية تنص على التزام واشنطن بالدفاع عن إسرائيل، وهي اتفاقية ملزمة لكل الرؤساء الأمريكيين».
ويقول إن الأمريكيين لديهم نظرة دونية عن أهل الشرق، ففي أثناء الاستعداد لإعلان دولة إسرائيل في الأربعينيات ناقش الكونجرس الأمريكي كيفية الإعلان عن الدولة، وكان من بين الأسئلة المثارة «كيف نقنع العرب بإنشاء دولة إسرائيل في أرض عربية؟»، وجاء الرد حينذاك بأن «أهل الشرق أناس بسطاء، عقليتهم غير مركبة، لا يفهمون ما بين السطور ولا ما وراء الكلمات، والمهم أن نغازل عواطفهم لأنها تتحكم في عقولهم».
يستثني «الدسوقي» الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من هذه النظرة، ويقول: «عبدالناصر كان يقول: إذا مدحني عدوي فأنا على الطريق الخطأ، لذا كان الإصرار الأمريكي على ضرورة إقصائه وعدم تجديد حكمه، هكذا قال أيزنهاور في 1957 عندما ألغت مصر اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954، والتي كانت تسمح بعودة القوات البريطانية إلى قاعدة قناة السويس حال وقوع اعتداء على إحدى دول الشرق الأوسط، وهم يقصدون إسرائيل. وبعد وفاته رفعت الإدارة الأمريكية شعار No Nasser Again».
يبدي المؤرخ الفلسطيني عبدالقادر ياسين دهشته ممن يصدمون من الموقف الأمريكي بخصوص صفقة القرن ويتصرفون بمنطق «مكانش العشم»، ويقول إن «الولايات المتحدة هي من أوجدت إسرائيل، وهي التي دأبت على دعمها بشتى الطرق، وإن تفاوت هذا الموقف من رئيس إلى آخر»، مشيرًا إلى تأييد الرئيس الأمريكي وودرو ويسلون لوعد بلفور في أثناء الحرب العالمية الأولى.
يضيف «ياسين»، لـ«المصري اليوم»، أن «الولايات المتحدة قبل الحرب الثانية كانت تؤيد الصهيونية على خجل، وكان الحليف الاستراتيجي لإسرائيل المملكة البريطانية، رأس المعسكر الإمبريالي آنذاك، وعندما انتدبت بريطانيا على فلسطين سهلت انتقال الأراضي الحكومية إلى الصهاينة، ووفرت لهم التشريعات والحماية، وضيقت الخناق على عرب فلسطين، وأخذ الصهاينة في التزايد والتكاثر، وعندما اندلعت الحرب الثانية نأت الولايات المتحدة بنفسها عن الضربات الألمانية واحتفظت بقوتها الاقتصادية والعسكرية إلى حد بعيد، بينما خسرت بريطانيا وفرنسا الكثير من قوتهما في الحرب».
ويتابع: «الحرب العالمية الثانية وضعت الولايات المتحدة على رأس المعسكر الإمبريالي، وفي مؤتمر بلتيمور عام 1942 قرر الصهاينة نقل مركز ثقلهم من لندن إلى واشنطن، مع الإبقاء على ممثل لها في لندن للإيهام باستمرار العلاقات مع بريطانيا، ولكن المقر الرئيسي تحول إلى واشنطن، وبانتهاء الحرب بدا واضحًا أن الإمبريالية الأمريكية تريد الخروج من عزلتها في الأمريكتين وتدخل العالم القديم كي ترث بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهما، ومن جملتها كانت فلسطين».
طالب الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الانتخابات البرلمانية 1945 بفتح فلسطين أمام مئة ألف مهاجر يهودي جديد، حسب «ياسين»، ويضيف: «علمت حكومة العمال البريطانية أن الصهيونية نقلت مركز ثقلهم إلى أمريكا، وأنها ستكون أداتهم في وراثة بريطانيا في فلسطين بعد أن تتحول إلى وطن قومي لليهود، فأخذ الإنجليز يعرقلون مشروع الهجرة أمام إلحاح من الأمريكان، فتشكلت لجنة أنجلوأمريكية وأوصت بإدخال مئة ألف يهودي جديد إلى فلسطين».
جدد وزير الخارجية البريطاني، إرنست بيفن، رفضه لهجرة اليهود إلى فلسطين، وشن الصهاينة هجمات عسكرية على منشآت بريطانيا في فلسطين، وأسقطوا عددا كبيرا من الجنود، فدعت بريطانيا إلى مؤتمر لندن الثاني أواخر عام 1946، ويقول «ياسين»: «فشل المؤتمر في تحقيق تسوية، فنصح خبراء الخارجية البريطانية وزيرهم بعرض القضية على الأمم المتحدة لاستغلال التوازن بين الكتلة الموالية لأمريكا والكتلة الموالية للاتحاد السوفيتي».
ويضيف: «أرسلت الأمم المتحدة لجنة دولية إلى فلسطين، وقطع عبدالرحمن عزام، الأمين العام لجامعة الدول العربية، باستحالة التعايش بين العرب واليهود، الأمر الذي أكده وزير الخارجية السوري، جميل مردم بك، ووزير الخارجية اللبناني، حميد فرنجية، ووجدت أغلبية اللجنة في ذلك ذريعة للمطالبة بتقسيم فلسطين مادام التعايش مستحيلًا».
ويتابع: «تصرف العرب للأسف على نحو ضد القضية في الوقت الذي حرص الوفد الصهيوني على التواصل مع كل الوفود بما في ذلك الوفد السوفيتي، حتى أن كاتبًا صهيونيًا يدعى ناداف صفران، قال إن الوفد الصهيوني كان يتردد بين الوفدين الأمريكي والسوفيتي مثل بندول الساعة، بينما حرص الوفود العربية على عدم الاتصال بالوفد السوفييتي حتى لا ينزعج الغرب، ومع ذلك طرح عليهم وكيل الخارجية السوفيتي آنذاك، أندريه جروميكو، مشروعًا تقسم بموجبه ثلثي فلسطين للعرب والثلث الأخير لليهود، ورفض المندوبون العرب تسلم المشروع السوفيتي باستثناء المندوب السوري فارس الخوري، لكنه نال تقريع رئيسه شكري القوتلي على مجرد استلام المشروع».
ويقول «ياسين»: «ليلة التصويت على قراري الأغلبية والأقلية دعا مندوب الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة الوفود العربية إلى حفل شاي ليتشاوروا حول الموقف، ولم يحضر أحد، ويقول الشقيري في مذكراته: أثناء مناقشة القضية في الأمم المتحدة قام المندوب السوفيتي ليقضي حاجة، وفي الوقت نفسه قام وزير الخارجية العراقي، فاضل الجمالي، ليقضي حاجة أيضًا، لكنه لاحظ أن المندوب السوفيتي يتجه الاتجاه نفسه، فعاد لكيلا يظن الغرب أن هناك اتصال».
ويتابع: «في هذه الأثناء قدم الاتحاد السوفيتي أوكرانيا لشغل مقعد في مجلس الأمن، وصوتت كل الوفود العربية ضد عضوية أوكرانيا إرضاء لأمريكا، وتأكد السوفييت أنه يقف إزاء أنظمة عربية خاضعة تماما للإمبريالية، ولا أمل فيها، لذلك قال جروميكو إن التقسيم أفضل الحلول السيئة، وهو المشروع الوحيد القابل للحياة».
يقف «ياسين» ضد الآراء القائلة بانصياع الولايات المتحدة الأمريكية وخضوعها إلى تأثير الصهيونية، ويقول: «الذيل لا يحرك الكلب؛ الصهيونية ذيل وأمريكا هي الكلب». ويضيف: «اللوبي الصهيوني في أمريكا ظهر عام 1959، ومهمته الأساسية أن يوفر ذريعة لحكام العرب حتى يقولوا إن الإدارة الأمريكية خاضعة للوبي الصهيوني. الاحتكارات الأمريكية أنشأت اللوبي ليتكأ عليها رئيس البيت الأبيض ويتذرع بها لتقديم الدعم لإسرائيل، وفي حرب السويس 1956 شاركت أمريكا في العدوان شريطة إسقاط عبدالناصر في 24 ساعة، واستمرت 48 ساعة في الحرب ولم يسقط ناصر فانسحبت، وكان عدوانًا رباعيًا».
يقول الباحث والصحفي الفلسطيني أحمد جابر إن «هناك استسهالًا في القول بأن مشكلتنا الأساسية ومصيبتنا الكبرى كفلسطينيين ومؤيديهم من العرب جاءت مع ترامب وصفقة القرن المرتبطة به، وكأننا كنا نعيش في عصور ذهبية مع الإدارات الأمريكية السابقة، لذلك لا بد من التذكير أن الحملة الأمريكية الصهيونية على الشعب الفلسطيني هي حملة قديمة، بدأت قبل الاعتراف الأمريكي الفوري بالكيان الصهيوني، ولكن الجديد في عهد ترامب هو تصدره لمشهد هذه الحملة أو الحرب، حتى أنه تجاوز في قراراته العدوانية طريقة تفكير المؤسسة الأمنية الصهيونية نفسها».
يضيف «جابر» لـ«المصري اليوم» أن «تصفية القضية الفلسطينية هدف تاريخي لهذا التحالف المشين، وقد وجد لها اسما الآن (صفقة القرن)، وأعتقد أن هذا التحالف أعمق بكثير من مجرد نقل السفارة، فنقل السفارة ليس سوى خطوة رمزية، مرتبطة بتعزيز القوة والحصانة لهذا الحلف وللعدو الصهيوني، وتأكيد ضعف الفلسطينيين والعرب، ولنتذكر أنه كان هناك سفارات موجودة في القدس المحتلة بين عامي 1967 و1973، ولكنها سرعان ما فرت وغادرت بعد حرب أكتوبر، فالمسألة بالأمس واليوم وغدا هي مسألة قوة».
يؤكد «جابر» أن «العدو سيستغل حالة ضعفنا كفلسطينيين وعرب لقضم الجزء الأكبر من الكعكة، وقد بدأ بالقدس كقضية يراها مركزية، وهي كذلك فعلًا في الصراع. ولنتذكر أيضًا أنه منذ عهد رونالد ريجان على الأقل لا توجد أية إدارة أمريكية قالت إن القدس ولو بشقها الشرقي يمكن أن تكون عاصمة لدولة فلسطينية، فمسألة حذف القدس عن طاولة المفاوضات ليست سبقًا لترامب، ولكنه استطاع استغلالها دعائيًا وبطريقته الفجة في الإعلان السياسي».
ينبذ «جابر» فكرة «العداء الأمريكي للعرب»، ويقول: «في السياسة والاستعمار لا وجود للمشاعر، يوجد فقط مصالح ونهب، وهذا الانحياز مرتبط بمصالح ليس أقلها أن الكيان الصهيوني كان وما يزال قلعة متقدمة للاستعمار الغربي لحراسة مصالحه وطموحاته، وتزداد أهمية القلعة أو تتراجع بمقدار قوة الطرف الآخر من جهة، وبمقدار ما يتورط المركز الإمبريالي نفسه في حماية مصالحه، وعملية نهب الثروات المستمرة التي لا يمكن أن تكون ناجحة دون إخضاع شعوب المنطقة، فالمسألة ليست عداء المركز الإمبريالي للعرب أو لغيرهم، بل مسألة العنصرية واحتقار الآخر واعتبار عرق وشعب متفوق على آخر، ما يتيح له نهب موارده واستعباده وربما لا مانع من إبادته».
ويصف الدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية، إسرائيل بأنها «رأس الحربة والبلطجي الصغير الذي ينفذ أجندات قوى الاستعمار، ووجودها مشروع استعماري ليس ملكًا لنتنياهو وأمثاله، هؤلاء أدوات، من يدير إسرائيل حكومات خفية في الغرب، وأهدافهم من بقاء وتمدد إسرائيل هي ضمان وحماية مصالحهم في المنطقة، وأن تكون خنجرًا باستمرار في ظهر العرب لضرب مشروع وحدتهم، وحماية ودعم الأنظمة الرجعية العربية التي قال عبدالناصر إنها أخطر على فلسطين من إسرائيل نفسها».
يرى الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أنه «منذ اللحظة الأولى يتضح أن ترامب منحاز تمامًا إلى وجهة النظر الإسرائيلية، ليس فقط لأن صهره كوشنر يهودي، ولكنه رجل مال براجماتي جاء من خارج المؤسسة الأمريكية التقليدية، وحتى اللحظة الأخيرة من الانتخابات لم يكن متوقعًا، ولا في أكثر الخيالات جموحًا، أنه سيصبح رئيسًا». ويؤكد: «لن يوجد وسيط آخر يستطيع أن يحل محل الولايات المتحدة من منظور ممارسة الضغط على إسرائيل، والولايات المتحدة لم تمارس الضغط على إسرائيل من الأساس».