افراسيانت - رام الله - "القدس" دوت كوم - كتب إبراهيم ملحم - لا تسأل دبلوماسيا، ولا محللا سياسيا، أو خبيرا استراتيجيا، إلا ويقول لك ما من مرحلة مرت على القضية الفلسطينية أسوأ، ولا أعقد، ولا أكثر خطورة، من تلك التي تَمُرُّ بها هذه الأيام.
ويسوق مُحدِثوك، أسبابا، وقرائن، وشواهد، تفسر هواجِسَهُم، وتُبرر هذا القَدْرَ الطافِحَ في منسوب تشاؤم تحليلاتهم، وهي أسباب نرى أعراضها، وتعبيراتها القاسية في الشواهد المرئية على الارض وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، والتي هي مزيج من الجرائم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني على امتداد أعوام النكبة التي حَلَّت به منذ عام 48 من القرن الماضي، إن ما يتعلق منها بهدم البيوت، والإعدامات الميدانية، والاقتحامات اليومية للمدن والقرى والمخيمات وفرض الحصار، والإغلاقات، واقتحام المستشفيات، وارتكاب عمليات القتل المجنونة على أسرة الشفاء، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق الاطفال على أرصفة الشوارع، واعتقالهم وترويعهم واخضاعهم لعمليات تحقيق قاسية، وترك الضحايا ينزفون حتى يلفظوا انفاسهم الاخيرة، واقتياد الحافلات من كراجاتها في المدن الرئيسية، الى الحجز التحفظي، واغلاق الاذاعات، وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها كما حدث في الحرب الاخيرة على غزة، وعمليات الحرق النازية التي تتلفع بأغطية تلمودية وقانونية، كما حدث في محكمة الشهيد ابو خضير اليوم، ورفض تقديم مرتكبي محرقة عائلة دوابشة الى المحكمة رغم تحديد هوياتهم وهو ما يغري مقترفيها لارتكاب المزيد منها وعلى نطاق اوسع.
وسط كل هذه الجرائم من عمليات الخنق، والقتل، والإسراف بالقتل، متبوعة بتصريحات وزير الخارجية الامريكي بحق إسرائيل في الدفاع عن احتلالها لارضنا وارهابها لشعبنا!! فلا أمل يلوح في الأُفُق المسدود بأعمدة الدخان، ولا حتى بوعود كاذبة، كتلك التي كنا نتدفأ عليها، ونُعللُ النفس بها في متاهات السلام الضائع، طيلة سنوات الخديعة الماضية.. فقد ذاب الثلج وبان المرج عن نوايا ومخططات وأهداف كانت مكبوتة حتى جاء الوقت للبوح بها في وضح النهار، لا دولة ولا حتى شبر واحد من الارض يُضاف بعد اليوم بل مزيد من المصادرات، وإنشاء المستوطنات، وتكثيف عمليات الخنق والحصار لـ"الكنتونات" التي باتت وسط غول الاستيطان كباقي الوشم في ظاهر اليد.
ووسط كل هذا ايضا يجري الحديث عن سيناريوهات ما بعد السلطة، وهي طُرُوحات تكشف عن نوايا ومخططات مطلقيها، فقد بلغت السلطة بِنَظَرِهم نهاية مشوارها، وأن بقاءها حتى وهي في أضعف حالاتها ومحدودية خياراتها، من شأنه ان يُشكل عرقلة لتلك المخططات، ذلك أن أحدا من الفلسطينيين لن يَقْبَل بسياسات الأمر الواقع، وإن ما لم تستطع إسرائيل الحصول عليه بالمفاوضات، لا يمكن لها ان تُحققه بالعضلات، وهي إن واصلت مثل تلك السياسات مستغلة حالة التيه العربي، والإنشغال بالإرهاب العالمي، فإنها ستُجابَه بمواقف دولية وإن كانت بأضعف الايمان، كتلك التي فرضت عليها مقاطعة ووسمت منتجات المستوطنات.
وسط كل تلك القراءات، التي تقدم توقعات متشائمة، لمآلات الأوضاع في المرحلة المقبلة، فإن تصليب الأوضاع الداخلية، بمعالجات سريعة، لكل التقرحات الداخلية عبر مقاربات، وتسويات، ومصالحات تمليها الضرورات، لضخ دماء جديدة في شرايين المؤسسات الوطنية، ولتجديد الشرعيات، لمواجهة ثقل التحديات الحالية والمقبلة، بات أمرا مُلحا لا يجوز ارجاؤه، حتى لا تجد السلطة نفسها ذات صباح في لحظة انكشاف فادحة وهي تواجه احدى تلك السيناريوهات، ويجري تحميلها مسؤولية انهيارها، تماما مثلما يجري تحميل الضحية مسؤولية مقتلها، بوضع "سكين المانية" بجانب جثتها، رغم ان السكاكين المتوفرة في الضفة الغربية صينية !!
تصريحات كيري في زيارته التي قد تكون الاخيرة إلى المنطقة، والتي حذر فيها من خروج الأوضاع عن السيطرة، يجب أن تؤخذ على محمل الجد فهو يعرف أكثر من غيره ان رعونة القيادة الاسرائيلية قد تقود لا محالة الى تلك المرحلة، فعوض ان تكون السلطة بانتظار الدولة التي كان من المفرض اقامتها بعد خمس سنوات من انشائها، باتت اليوم بعد عشرين عاما من المفاوضات، تنتظر سيناريوهات تفككها وانهيارها كما يخطط لها اعداؤها ليتخلصوا بذلك من عبء اي التزام سياسي تجاهها!
كمدحلة تدوس قلوبنا؟!!
لن تسقط مقاطع الفيديو الصادمة التي رصدت قيام مستوطنين باطلاق الرصاص على رأس الطفلة هديل عواد (16 عاما) واصابة ابنة عمها نورهان (15 عاما) بجراح خطيرة في القدس الغربية الشهر الماضي من ذاكرتنا، وهي تكشف حجم الوحشية، وانعدام الانسانية، في التعامل مع طفلتين تلوحان بيدين ضعيفتين أمام وحوش، تحت وطأة الشعور بالقهر من فَقْدِ عزيز، أو هدم بيت، أو استهداف اترابهما في مشاهد مماثلة لما تعرضتا له من عملية قتل مجنونة.
وحتى لا يقع المزيد من أطفالنا الأبرياء بين أسنان تلك الوحوش الكاسرة، فإن الواجب الوطني والإنساني يُملي علينا آباءً وأُمهات ومُرَبين ومسؤولين القيام بعمليات توعية وإرشاد نفسي لابنائنا من مخاطر تلك الخيارات التي يلجؤون اليها تحت وطأة مشاعر الفَقْد للاعزاء، او التأثر برؤية المشاهد القاسية لارهاب الدولة المنظم ، فمشاهد القتل التي تستهدف أطفالنا تدمي قلوبنا وتكسر ارواحنا.. انها كمِدحلة تدوس افئدتنا!