افراسيانت - هاني المصري - أفادت مصادر فلسطينية مطّلعة أنّ الرئيس الفلسطيني يفكر خلال الأشهر القادمة بالاستقالة، وسوف يعلن ذلك في اجتماع موسّع يدعو إليه أكثر من ثلاثمئة شخصية فلسطينية، سيعقد ـ على الأرجح - بعد جلسة المجلس الوطني المحتمل عقدها الشهر القادم، وقبل مؤتمر «فتح» المقرر عقده نهاية تشرين الثاني، ويُرجِع سبب قراره بالاستقالة إلى كبر سنه وتعبه ورغبته بالراحة.
نعم، الرئيس تعب ويشعر بالإحباط والخذلان، خصوصًا من الأميركيين والإسرائيليين الذين تخلوا برغم من كل المرونة والتنازلات التي قدمها، لدرجة أنه وَضَعَ كل بيضه في سلة ما يسمى «عملية السلام»، ولم يحصد في المقابل سوى الاستيطان والعنصرية والعدوان، وتهويد القدس وأسرلتها، وقيام حكومات إسرائيل المتعاقبة بعمل كل ما يمكن لقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية. وأكثر ما يزيد من إحباط الرئيس يأسه المطبق من إمكانية استئناف المفاوضات وتوصلها إلى اتفاق سلام، واقتراب حكومة نتنياهو من عقد اتفاق هدنة طويلة الأمد مع «حماس»، من شأنها تكريس الانقسام وإضعاف سلطته وتقوية سلطة منافسته «حماس».
من حق الرئيس أن يفكر بتسليم الأمانة، لأن الاستمرار الآن بحملها يعني إمّا الحفاظ على مهزلة ما يسمى «عملية السلام» والوضع الراهن الذي يؤدي إلى مزيد من تهميش القضية الفلسطينية، وتآكل الشرعيات، وتعميق الاحتلال والاستيطان والانقسام، أو المواجهة.
الرئيس لا يريد الاستسلام ولا يرغب بالمواجهة، كما أن استمرار الأمر الواقع الحالي أصبح مكلفًا جدًا ويهدد بعواقب وخيمة. لذا، قد يكون الانسحاب بعد تجديد الشرعية من خلال عقد المجلس الوطني ومؤتمر «فتح» هو القرار المناسب.
المعضلة تكمن في أن الاستقالة بعد هندسة النظام السياسي الفلسطيني على مقاس معين وبقاء القديم على قدمه قد تكون جسرًا أو تؤدي للبقاء عن طريق تجديد البيعة.
المواجهة مع الاحتلال لتغيير موازين القوى ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، وهي الطريق الوحيد للإنقاذ الوطني، شرط أن تكون مواجهة عقلانية تستند إلى رؤية جديدة وخريطة طريق كاملة وإستراتيجية قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون مراجعة التجربة الماضية مراجعة جذرية وعميقة، واستخلاص الدروس والعبر، والبناء على الإيجابيات والمكاسب ونقاط القوة، والتخلص من الأخطاء والنواقص والفساد والاستبداد وطريق «أوسلو» والتزاماته المجحفة.
ومدخل المواجهة الطبيعي إنجاز الوحدة الوطنية على أساس وطني وديموقراطي ومشاركة سياسية حقيقية، يأخذ فيها كل ذي حق حقه على أساس الاتفاق على عقد اجتماعي (ميثاق وطني جديد)، يحفظ الحقوق والرواية التاريخية، ويجسّد القيم والقواسم المشتركة، ويفتح طريق المستقبل.
لا غرابة في تفكير الرئيس بالاستقالة، فهو سبق أن هدد بها كما كرر بأنه لن يترشح للانتخابات القادمة. وقال لي في لقاء معه قبل أكثر من خمس سنوات بأنه لن يترشح للانتخابات القادمة، وطلب أن ننتظر أشهرا عدة لنطرح توصياتنا له ولخليفته.
إن عقد جلسة للمجلس الوطني بسرعة وعلى عجل ومن دون ضمان مشاركة من مختلف ألوان الطيف والموقّعين على «اتفاق القاهرة»، أي من دون أن تكون خطوة نوعية تساهم في إحياء المنظمة التي تعاني من موت سريري منذ عقد «اتفاق أوسلو»؛ سيؤدي إلى تحويل المنظمة إلى فريق وليس كما هي بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فاختيار المؤسسات الجديدة سيكون من قبل المؤسسات القديمة القائمة غير الشرعية، ما سيجعلها أدنى من مستوى التحديات والمخاطر التي تواجه القضية الفلسطينية، بل ستزيد الوضع الفلسطيني تفاقمًا وتشرذمًا وانقسامًا.
لا تكفي دعوة «حماس» و «الجهاد الإسلامي» للمشاركة في الدورة القادمة للمجلس من قبيل رفع العتب، من دون دعوة الإطار القيادي الموقت لـ «المنظمة»، للتحضير لعقد مجلس وطني جديد كما جاء في «اتفاق القاهرة»، الذي أكد «أن المصلحة الوطنية تقتضي تشكيل مجلس وطني جديد بما يضمن تمثيل القوى والفصائل والأحزاب الوطنية والإسلامية جميعها، وتجمعات شعبنا في كل مكان، والقطاعات والمؤسسات والفعاليات والشخصيات كافة؛ بالانتخابات حيثما أمكن وفقًا لمبدأ التمثيل النسبي، وبالتوافق حين يتعذر إجراء الانتخابات». إن مثل هذه الدعوة تضع «حماس» أمام مسؤولياتها وتقطع الطريق على «اتفاق التهدئة» مع إسرائيل، وإذا مضت برغم ذلك، فإنها تتحمل العواقب المترتبة على الأمر كافة.
إلا أن ما يحصل بدلًا من ذلك، هو تحضير بصورة انفرادية لعقد دورة استثنائية للمجلس الوطني القديم من غير إشراك المؤسسات، إذ لم يقر بشأنه - حتى اللحظة - لا في اللجنة التنفيذية ولا في اللجنة المركزية لـ» فتح»، وإنما عبر تشكيل لجنة ثلاثية برئاسة صائب عريقات وعضوية عزام الأحمد وأحمد مجدلاني.
ستعقد الدروة الاستثنائية على أساس نظام «الكوتا» (المحاصصة الفصائلية)، حيث ستقوم الفصائل باختيار ممثليها في المجلس برغم اندثار معظمها، ومن دون السعي الجاد لضم «حماس» و «الجهاد». كما ستتوزع مقاعد الدورة الاستثنائية على الاتحادات الشعبية التي شاخت وترهلت والتي تقودها الفصائل، وعلى الأمن والعسكر، برغم اختلاف المرحلة والدور، علماً أنهم ينتمون في غالبيتهم للفصائل، خصوصًا «فتح»، وعلى المستقلين والكفاءات الذين اختارهم سابقًا وسيختارهم لاحقًا ممثلو الفصائل.
إذا كان هناك ما يبرر أن تحوز الفصائل على الغالبية الساحقة من مقاعد المجلس الوطني في مرحلة النهوض الوطني والكفاح المسلح والعمل السري، فليس هناك ما يبرر ذلك بعد الخيبات والكوارث التي وصلت إليها القضية الفلسطينية بعد «اتفاق أوسلو»، وفي ظل الحقائق والمستجدات والمتغيرات التي حدثت وتغيرت فيها المنطقة والعالم والخريطة السياسية الفلسطينية بشكل جوهري، إذ اضمحلت فصائل بشكل كبير ولا داعي لاستمرار تمثيلها في اللجنة التنفيذية، وضعفت فصائل أخرى، وظهرت فصائل جديدة بأوزان كبيرة.
إننا بحاجة إلى مجلس وطني جديد يلبي احتياجات الشعب الفلسطيني وطموحاته ومصالحه، ويتم اختيار أعضائه بالانتخاب حيثما أمكن ذلك، ومن خلال التوافق الوطني الذي يعتمد معايير موضوعية، من ضمنها ألا يزيد عدد أعضاء المجلس القادم عن 300 أو 350 عضوًا، حتى يكون قادرًا على الحركة وعقد الاجتماعات الدورية بيسر ومن دون تكاليف باهظة.
إذا رتّب الرئيس كلاً من المنظمة و «فتح» على أساس الوحدة، وفتح طريق الخلافة مع إبقاء الخيارات الفلسطينية متنوعة، وأعلن استقالته، فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يلومه، لأن الخليفة أو الخلفاء سيكونون معروفين تمامًا. ولكن إذا تمت هندسة النظام السياسي على مقاسه، وبما يحافظ على الوضع الانقسامي الراهن، ففي هذه الحالة قد يكون الرد على استقالة الرئيس ـ إن حدثت - تنظيم التظاهرات والعرائض التي تطالبه بالبقاء وتجديد البيعة، خشية الفوضى التي يمكن أن تحدث بعده، وفي هذه الحالة، «كأنك يا أبو زيد ما غزيت».