افراسيانت - أشرف الصباغ - في الوقت الذي تدور فيه المناورات السياسية والمغامرات العسكرية الساخنة حول سوريا والعراق، يتم تجاهل ما يجري في ليبيا وكأن هناك اتفاقا ضمنيا دوليا على ذلك.
وبالتالي، ليس غريبا أن تصدر دول غربية (الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا) بيانا مشتركا ليلة الاحد 16 أغسطس/آب الحالي تندد فيه بالأعمال "الهمجية" التي ارتكبها تنظيم داعش في ليبيا، وترفض في الوقت نفسه التدخل العسكري لحل النزاع هناك.
الصمت الغربي عن تواجد عناصر تنظيم "القاعدة" في ليبيا بدأ منذ ما قبل مقتل معمر القذافي.
وفي الوقت الذي كانت كتائب القاعدة تصول وتجول في مساحة ما يقرب من 1000 كلم مربع بين بنغازي وسرت في نهاية عام 2011 بعلم كافة أجهزة الاستخبارات الغربية (الفرنسية والبريطانية والأمريكية بالذات)، كان يجري توجيه الأنظار إلى ما يجري في سوريا فقط، والتعلل من جهة أخرى بضرورة التخلص من معمر القذافي.
وبعد أن قام حلف الناتو بمساعدة عناصر القاعدة في "فتح طرابلس" بقصف جوي مكثف من أعلى، ومن ثم دخول تلك العناصر تحت هذا الغطاء الجوي المحكم إلى الساحة الخضراء وقصر العزيزية، أصبح أكثر من نصف ليبيا تقريبا تحت سيطرة "القاعدة" وتنظيمات أخرى.
وعلى الفور تمت إقامة ولاية "درنة" الإسلامية، ثم ظهور تنظيم "داعش" الذي احتل غالبية المساحات التي كانت تسيطر عليها القاعدة.
هذه التحولات كانت واضحة أثناء تغطية RT طوال عامي 2011 و2012 للأحداث في ليبيا، وبالذات في بنغازي والمنطقة الشاسعة الممتدة بينها وبين سرت.
وكان من الواضح أن عناصر القاعدة قد اتخذوا ميناء "راس لانوف" كمركز للقيادة، وانتشرت كتائب غريبة التكوين والتسمية، تضم مسلحين من دول عربية ومن آسيا الوسطى يرتدون الزي الأفغاني، على شريط الصحراء الموازي للبحر، إلى ما قبل سرت.
وبظهور داعش، تم الاستيلاء على سرت، بينما تدور المعارك في جنوب ليبيا في الوقت الراهن، وبالذات في سبها، لتحقيق أهداف في غاية الخطورة، وعلى رأسها تغيير التركيبة الديموغرافية لجنوب البلاد لصالح سيناريوهات فرنسية سوف تتضح فيما بعد.
الآن تواصل الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، نفس الآليات في التسويف والمماطلة من جهة، وعقد جلسات الصلح والمفاوضات من جهة أخرى، ومنع الحكومة الليبية الشرعية من ممارسة مهامها من جهة ثالثة.
كل ذلك يجري في هدوء مع لفت الأنظار إلى ما يجري في سوريا والعراق فقط، وتجاهل المجازر الحقيقية التي تجري في ليبيا، وتحويل هذا البلد إلى بقعة أخطر بعشرات المرات من أفغانستان، وكقاعدة انطلاق مستقبلية للتظيمات الإرهابية ليس فقط في شمال أفريقيا، بل وفي أفريقيا كلها، وربما تهديد أوروبا نفسها التي لا تبعد كثيرا عن ليبيا وشمال القارة السوداء. وهو ما سيشكل الأساس القانوني مستقبلا للتدخل هناك.
الحكومة الليبية المعترف بها دوليا تطلب اليوم من الدول العربية توجيه ضربات جوية ضد تنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية، وتتهم المجتمع الدولي بالتخاذل والصمت المثير للشكوك إزاء ما وصفته بـ "جرائم داعش" فى ليبيا، مجددة مطالبتها للدول الصديقة والحليفة بممارسة مزيد من الضغوط على مجلس الأمن الدولي لرفع الحظر عن توريد السلاح للجيش الليبي.
إننا أمام جريمة يرتكبها مجلس الأمن الدولي بضغوط من دول غربية بعينها.
ففي الوقت الذي تطلب فيه "فصائل معارضة مسلحة" سورية دعما أمريكيا أو تركيا، أو غربيا عموما، يتم تلبية ذلك في أسرع وقت ممكن، ويتم أيضا رصد مئات الملايين من الدولارات لهذا الهدف، بينما عندما تطلب حكومة شرعية ومعترف بها دوليا الدعم ضد الإرهاب الواضح، لا يستجيب أحد لطلبها. بل تنطلق الحجج والمزاعم بأن إمداد الحكومة الشرعية بالسلاح يعتبر خطرا على مستقبل البلاد!
من جهة أخرى، كبَّلت الدول الغربية أي جهود عربية لتطبيع الأوضاع في ليبيا، وتقديم المساعدات للحكومة المعترف بها، وأوقفت كل المبادرات التي تقدمت بها دول عربية لمساعدة الحكومة الليبية.
بينما يجري ذبح العشرات هناك يوميا وبث ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن جهة ثالثة، يواصل المبعوث الأممي برناردينو ليون مناوراته التي لا تقل خطورة عن نشاطات داعش وبقية التنظيمات الإرهابية، بإطلاق تصريحات وهمية تهدف إلى التسويف والمماطلة، وعقد جلسات تفاوض يعرف الجميع أنها لن تؤدي إلى أي نتائج في ظل الإصرار الغربي على "تأجيل" التعامل الجدي مع ما يجري في ليبيا، وتدخل أطراف إقليمية لدعم هذا التنظيم الإرهابي أو ذاك، أو استقطاب هذه الدولة أو تلك من الدول المجاورة لليبيا المنكوبة.
إن الدول الغربية الست التي وقعت على البيان المثير للشكوك حول أن "الحل العسكري للنزاع في ليبيا غير مطروح حاليا"، تفعل ذلك في الوقت الذي تبحث فيه جامعة الدول العربية الثلاثاء 18 أغسطس/آب إمكانية رفع حظر السلاح عن الجيش الليبي من جانب الدول العربية لدعم الحكومة المؤقتة في حربها على الِإرهاب، وليس التدخل العسكري في ليبيا.
ولكن يبدو أن هناك إصرارا من جانب هذه الدول الست على التسويف والمماطلة لتحقيق أهداف بعينها.
وإذا كان مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي قد انتقد موقف مجلس الأمن الدولي إزاء ممارسات "داعش" في سرت، مشددا على أن موقف مجلس الأمن واضح، ولن يوافق على أي طلب لتسليح الجيش الليبي قبل تشكيل حكومة وفاق وطني حتى لو احتل تنظيم "داعش" كل ليبيا وقطع رؤوس جميع الليبيين، فإن ليبيا كلها في حقيقة الأمر تئن تحت وطأة داعش وغيره من التنظيمات التي أصبحت تشكل خلايا عنكبوتية.
لكن الذي لم يذكره الدباشي، أن المبعوث الأممي وعناصر الاستخبارات الغربية والدبلوماسيين الغربيين الذين يشاركون في "المفاوضات الوهمية" يفرضون شروطا سرية قاسية على الحكومة المعترف بها دوليا، وعلى رأسها إبعاد اللواء خليفة حفتر قائد الجيش من المشهد السياسي، إضافة إلى شروط أخرى تتعلق بتقسيم الكعكة الاقتصادية الليبية.
ومن الواضح أيضا الصراع الأمريكي الفرنسي في ليبيا وحولها. إذ تصر فرنسا على عدم تمزيق مساحة نفوذها، وتواصل "اللعب" في مناطق عديدة، وخاصة في الجنوب الليبي، لضمان أكبر قدر من المصالح المستقبلية.
ومن الصعب تصور السيناريوهات الفرنسية بمعزل عن قيام باريس باستقطاب بعض دول الجوار الليبي لضمان عدم نجاح أي تصويت في جامعة الدول العربية لصالح دعم الحكومة الليبية المعترف بها دوليا.
وهذا بالضبط ما تقوم به أيضا الولايات المتحدة مع بعض دول الجوار الأخرى لنفس الهدف.
المسألة الآن لم تعد سرت أو بنغازي أو هراوة أو سبها أو درنة أو النوفلية، بل كل ليبيا التي يتم تجهيزها لتصبح أفغانستان حقيقية، تمهيدا لتدخل أوروبي – أطلسي، يمهد بدوره لنهب هذا البلد، أو هدمه تماما إلى أن يتم الاتفاق على الحصص، ومثال العراق لا يزال قائما أمام أعين الجميع.