واشنطن - افراسيانت - كان ذلك في يناير من العام 1974. ونحن اليوم في يناير أيضا، وجهت الصحافة اتهامات لساكن البيت الأبيض، ويوجه صحافي اتهامات أيضا لساكن جديد للبيت الأبيض.
صحافي لم يكن يشكو من غياب اعتراف مهني. فهو معلق معروف نُشرت مقالاته في عدد من كبريات الصحف الأميركية، منها “هوليويود ريبورتر” و”فانيتي فير” و”نيويورك ماغازين” وغيرها. تنقّل من صفحة إلى أخرى، ومن مشروع طموح إلى آخر.
لقد نجح كثيرا وفشل قليلا، لكنه اقتنص هذه المرة طريدة سهلة شغلت ناس أميركا منذ ظهوره. فبإمكان مايكل وولف أن يدين لدونالد ترامب بتلك النجومية الساطعة التي هبطت على الصحافي الأميركي المخضرم، لتجعله من أشهر شخصيات العالم برمته في الأيام الأولى لعام 2018 بعد الضجيج البركاني العالمي الذي أثير حول كتابه “فاير اند فيوري” أو “النار والغضب” الذي صدر الجمعة الماضي حول البيت الأبيض وساكنه وعائلته.
واكب الصحافي الدؤوب الرجل الثري الأشقر منذ الساعات الأولى لحملته الانتخابية المثيرة للجدل، انتهاء بدخوله واستقراره في البيت الأبيض. ممضيا 18 شهرا وهو يدور داخل وحول منظومة السياسة والمال والأعمال لترامب. وحتى يخطّ كتابه-الحدث كان عليه أن يجمع شهادات أكثر من 200 شخصية عرفت ترامب وعاشرته وخبرته، ناصرته وخاصمته وعادته.
من قلب منظومة ترامب
كان وولف قد راكم خبرة حياتية خلال سنينه الـ64. ولد الرجل في نيوجيرسي تعلم من والده العامل في ميدان الإعلانات إلى جانب الأعمال في مهنة الإعلام ما أخرجه من حيز الكتابة إلى عالم الأعمال، فأسس شركاته. برع في بعضها وأفلس بعضها الآخر. لكن انشداده إلى الصحافة كحرفة شأن أخذه عن أمه التي كانت تعمل مراسلة صحافية. ومنذ أن كان طالبا في جامعة كولومبيا في نيويورك عمل موزعا داخل إحدى صحف المدينة، قبل أن تنشر له النيويورك تايمز العريقة أول مقال له عام 1974.
أجرى وولف مقابلة مع ترامب، حين كان مرشحا للرئاسة عام 2016. وحين فاز في الانتخابات على نحو فاجأ حزب الجمهوري نفسه وصعق عائلته دهشة و”أبكى ذلك الفوز زوجته ميلانيا كمدا”، حسب ما يكشفه الكتاب، خطر للصحافي الماكر أن يطلب من الرئيس الجديد حرية الحركة في البيت الأبيض.
لم يرفض ترامب المزهو بانتصاره طلب وولف، ما فتح أمام الأخير فضاءات وممرات وكواليس راكمت مادة صلبة رسم بها سطور كتابه الشهير.
من لحظتها التصق وولف بجدران البيت الأبيض كـ”ذبابة”، على حد وصف من عرفه جيدا، وأضحى جزءا من أثاث البيت الرئاسي الكبير. كان يأتي من نيويورك إلى واشنطن كل أسبوع، ليلج البيت الأبيض، لا سيما جناحه الغربي حيث مركز السلطة وحكاياتها، ما خصّب كتابه بقصص وحكايات طريفة وأسرار تتجاوز أصداء الغرف المغلقة التي عرفتها الولايات المتحدة مع رؤساء سابقين، بحيث يختلط في كتابه الأخير السياسي بالعائلي، وتتقاطع ورش صناعة القرار بنزق ربّ البيت الأبيض وسكانه.
حيطان وآذان
أنصت وولف كثيرا حين كان في البيت الأبيض إلى ستيفان بانون مساعد الرئيس ومستشاره للشؤون الاستراتيجية آنذاك. يملك الصحافي ما يجعل بانون، الذي كان من أكثر المحيطين قربا من ترامب ومهندس انتصاره، أن يفرج عن أسرار كتمها حين كان يدا يمنى للرئيس الأميركي.
مجلة "نيو ريبوبليك" تصف مايكل وولف بأنه مزيج من كاتب صحافي عريق ومن معالج نفسي وعالم اجتماع يجر قراءه ليكونوا كـ"ذبابة على جدار" أصحاب السلطة والمال وشخوص القمم في السياسة والمجتمع والاقتصاد.
طرد ترامب بانون. فأفشى الأخير أسرارا لم يعد يهمه الاحتفاظ بها بعد أن صار ضحية من ضحايا رجل البيت الأبيض القوي.
يكشف بانون أن اجتماع ابن ترامب مع مسؤولين روس دون وجود محامين يعتبر “خيانة”. يكفي أن يتكلم بانون فيصفه ترامب بالجنون. لم يصفه بالكاذب. وصفه بما يتجاوز ذلك: الجنون.
الجنون، هو التعبير الذي ينقله وولف عن مقربين من ترامب يشككون في قدراته العقلية. أمر كهذا يضطر شخصية بحجم وزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى نفيه بصيغة ملتبسة “إنه ليس مثل الرؤساء السابقين. ولهذا اختاره الأميركيون. كانوا يريدون التغيير”.
والظاهر أن وولف يهوى مشاغلة كبار الرؤوس. كان بإمكانه أن يكتفي بما قدمته له المهنة وأهلها من اعتراف. حاز عام 2002 ثم عام 2004 على جائزة ناشيونال ماغازين تقديرا لمقالاته في العديد من منابر الولايات المتحدة الصحافية التي تتناول العديد من شؤون بلاده كما شؤون العالم. لكنه أصدر عام 2008 كتابه الشهير “الرجل الذي يملك الأخبار”. كان هنا يشرّح بمبضع حاد رجل الإعلام الأول في العالم روبرت مردوخ.
معركة مع الرئيس ومع آخرين
مجلة “نيو ريبوبليك” تحدثت عن وولف في أحد إصداراتها عام 2004. تعثرت في وصفه واعتبرته مزيجا من كاتب صحافي عريق ومن معالج نفسي وعالم اجتماع يجرُّ قراءه ليكونوا كـ”ذبابة على جدار” أصحاب السلطة والمال وشخوص القمم في السياسة والمجتمع والاقتصاد.
أثارت رواياته التي استندت على محادثات شخصية أو على مصادر حصل عليها بشكل غير مباشر صخبا كثيرا، واستدرجت ردود فعل غاضبة كتلك التي ينفخها ترامب ضد كتابه الأخير هذه الأيام.
ينقل وولف ما سمعه وما شاهده وما نمي إليه. يغضب الرئيس الأميركي ويسعى لوقف نشر الكتاب، ويغرد بصخب أنه كتاب مليء بالأكاذيب. ترد دار النشر بتقديم موعد صدور الكتاب أربعة أيام، ذلك أن مادة الكتاب متينة موثقة صادقة، وذلك أيضا أن الأرباح التي تعد بها عمليات بيع الكتاب الذي يتصدر موقع آمازون الشهير واعدة واستثنائية.
وذات يوم كتب الناقد الأدبي دايفيد كار في الواشنطن بوست يقول إن “أحد أكبر مشكلات وولف أنه حتى عندما يستطيع امتلاك المعرفة والإدعاء بأنه يعرف كل شيء، إلا أن معرفته تلك تكون في بعض الأحيان خاطئة”.
كان كار يعلق على كتاب وولف حول مردوخ. وفي قوله “في بعض الأحيان”، ما قد يكون إقرارا بأن وولف يعرف الحقيقة في أغلب الأحيان.
تلك الحساسية التي تشبه الغيرة من نجاح وولف التي قد تتسرّب من تعليق كار، ظهرت أيضا في تغريدة للصحافية البريطانية بيلا ماكي التي عملت سابقا في الغارديان، والتي اعتبرت أن كتاب وولف حول البيت الأبيض “مسلي”، لكنها أطلقت تحذيرا أنه “إذا كنتم تعرفون مايكل وولف لا تأخذوا كل ما يكتبه على محمل الجد”.
هل يكذب وولف؟ هل يبالغ؟ أم أنه مقتنص شهرة؟
تقول الناطقة باسم البيت الأبيض أن كثيرا مما كتبه وولف “خطأ”، وأن الكاتب لم يحظ بالحديث مع ترامب منذ تبوئه رئاسة البلاد إلا من خلال “محادثات هاتفية مقتضبة لدقائق، وأنه لا علاقة تجمعه مع الرئيس”.
لكن وولف قال في حوار مع قناة “إن بي سي” إن موظفي البيت الأبيض يتعاملون مع ترامب وكأنه “طفل رضيع”. ووصف ترامب بأنه لا يقرأ ولا يستمع.
أميركا العميقة
غير أن تأملا بسيطا للحدث الأميركي الحالي يستنتج أنه مولود شرعي للحدث الدراماتيكي الذي أتى بشخصية كترامب ليحكم من البيت الأبيض الدولة الأولى في العالم.
انهارت شعبية ترامب بعد أسابيع على دخوله البيت الأبيض، وظهر ذلك البون الشاسع الذي يتسع يوما بعد يوما إلى حد الفصام بين المؤسسات الأميركية وشخص الرئيس في البيت. بات الكلام عن إنجازات الرئيس متواكب مع طموحات الابنة إيفانكا وجلبة الصهر جاريد وحرد الزوجة ميلانيا وخبل ترامب نفسه.
لم تعد أميركا العميقة تحصّن رئيس البلاد، وبات الأميركيون يتساءلون كل يوم: هل ما زال هذا الرجل يحتل ذلك البيت الكبير في واشنطن؟
بمعنى آخر، لو لم يكن مايكل وولف في هذه اللحظة لتم اختراعه. ذلك أن حكايات الرجل تستحق أن تروى بصفتها مسرحية “مسلية” يختلط في ثناياها الواقع بالخيال، وبصفتها جدارية تعلق على حائط محكمة تحاكم رئيس أميركا على صفحات كتاب، أو ربما يوما داخل محكمة حقيقية ترمي به خارج جدران البيت الأبيض. حينها فقط لن تكون للذبابة على الحائط الوظيفة التي شغلها وولف.
يجزم وولف بثقة أن ما نسبته 100 بالمئة “من الأشخاص المحيطين بترامب من أسرته ومستشاريه يشككون في قدرته العقلية وجدارته بالرئاسة”. ويضيف أنه حتى إيفانكا ابنة ترامب وزوجها جاريد كوشنر “يحمّلانه مسؤولية كل شيء ويقولان: ليس نحن بل هو”.
ويعيد الصحافي المثير للجدل التأكيد أنه التقى ترامب في حوار استمر ثلاث ساعات، مضيفا قوله “لقد تحدثت مع الرئيس بالتأكيد، ولا أعرف إذا كان يدرك أن ذلك كان حوارا أم لا، ولكن الشيء المؤكد أن الحوار مسجّل”.
أجواء تشبه الأيام الصعبة التي سبقت فضيحة كبرى هزت أميركا، وتسببت باستقالة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في السبعينات، لأسباب أقل بكثير من الاتهامات التي تحوم حول ترامب. إنه مناخ “ووترغيت”.