هذا العالم الذي أقفر من القيم الإنسانية ليتحوّل إلى غابة مرعبة لا مكان فيها للبريء والضعيف.
افراسيانت - *حسونة المصباحي - ثمة أفلام تبقيني مشدودا إلى الشاشة من البداية إلى النهاية كما هو الحال مع الروايات البديعة والمثيرة. وأعترف أني لا أملّ من مشاهدة أفلام مخرجين عالميين جعلوا من السينما فنا جماهيريا عظيما يثير إعجاب الملايين من المتفرجين في جميع أنحاء العالم.
وفيلم “بابل” من بين الأفلام التي سحرتني بروعة إخراجها، وبتطرقها إلى قضايا ساخنة نعيشها راهنا، والمتمثلة في الإرهاب الذي تحوّل إلى ظاهرة عالمية لم يسبق لها مثيل. وفيلم “غومورا” المأخوذ من رواية تحمل نفس العنوان للكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو، والذي أخرجه ماتيو غروني، من بين الأفلام التي راقت لي كثيرا، ووجدت فيها ما يعكس عالمنا في الوقت الراهن الموسوم بالجريمة والعنف. وفي البداية عليّ أن أشير إلى أن كاتب الرواية والمخرج ينتميان إلى الجيل الجديد في بلاد دانتي. وكل واحد منهما حديث العهد بالفن. فقد ولد روبرتو سافيانو عام 1979 بمدينة نابولي.
وفي طفولته عاش في الأحياء الفقيرة، وشاهد ضحايا المافيا جثثا ملقاة على أرصفة شوارع المدينة. وباهتمام شديد كان يتابع حياة الناس العاديين، وأيضا حياة الناس المورطين في العنف والجريمة. وعندما أصبح يعمل في الصحافة، حرص روبرتو سافيانو على أن يكون متخصّصا في القيام بتحقيقات عن جرائم المافيا في نابولي. لذا راح منذ البداية يتسلل إلى العوالم السوداء، جامعا الوثائق، والشهادات إلى أن تمكن من إصدار رواية أحرزت -حال صدورها- على شهرة عالمية واسعة، ومنها بيعت ملايين النسخ. وكان من الطبيعي أن تثير هذه الرواية حفيظة عصابات المافيا وغضبها.
لذا شرعت تهدّد صاحبها بالقتل، وكان على روبرتو سافيانو أن يلجأ إلى قوات الشرطة طالبا الحماية. وحتى الآن هو لا يزال يعيش متخفيا عن الأنظار، وربما سيظل كذلك سنوات طويلة أخرى. وأما مخرج الفيلم إتيو غروني المولود عام 1968، وهو العام الذي شهد انفجار الانتفاضة الطلابية الشهيرة في جميع أنحاء أوروبا، فقد عمل مديرا للتصوير في العديد من الأفلام. كما أنه أخرج أربعة أفلام غير أنها لم تحظ بالشهرة التي حظي بها فيلمه “غومورا” الذي أحرز على السعفة الذهبية لمهرجان كان في ربيع عام 2008.
ويروي الفيلم جوانب متعددة من عالم المافيا الإيطالية بطريقة أخاذة ومثيرة للدهشة؛ فتأخذنا الكاميرا إلى شوارع نابولي الخلفية، وإلى أحياء القصدير فيها حيث مروّجو المخدرات، وحيث الدعارة والعنف والسقوط ألأخلاقي في أبشع مظاهره، وفيها يجبر الأطفال على تسليم أنفسهم إلى زعماء الجريمة المنظمة بهدف الحصول على لقمة العيش.
ومبكرا يدرّبون على اجتثاث عواطفهم الإنسانية ليتحوّلوا إلى وحوش ضارية تقترف أبشع الجرائم بدم بارد، وتنظر إلى جثث ضحاياها بعيون خالية من أيّ تعبير إنساني.
وتتابع الكاميرا موظفا يمنح رواتب لعائلات رجال المافيا المسجونين، أو هي تسمح لنا بمصاحبة رجل أنيق لا يتردّد في ردم المواد السامة في الأراضي الزراعية، وعندما يرفض شابّ مواصلة العمل معه، يقول له بنبرة ازدراء: أنت لا تصلح لهذه المهنة الشريفة، ومن الأفضل لك أن تكون بائع بيتزا.
وهناك شابان مفتونان بالأسلحة يحلمان بأن يصبحا من رجال المافيا مهابي الجانب. وفي النهاية يُقتلان، ويرمى بجثتيهما في المزابل. وهناك مصمّم أزياء غير مشهور، لكنه موهوب، وصاحب كفاءة عالية في مهنته. وبسبب استفحال متاعبه المادية، يقبل في النهاية أن يعمل لفائدة صينيّ جلب عشرات من العاملات يعملن في مصنعه السري من دون علم السلطات الإيطالية.
وتتخلل الفيلم سلسلة من الجرائم الفظيعة التي تعكس سوء الحياة في عالم اليوم. هذا العالم الذي أقفر من القيم الإنسانية ليتحوّل إلى غابة مرعبة لا مكان فيها للبريء والضعيف.
*كاتب من تونس