افراسيانت - أشرف الصباغ - بعد عامين من كل المحاولات الأمريكية الممكنة لاستخدام الورقة الأوكرانية للضغط على روسيا، كشر نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أنيابه لحلفائه في كييف.
بايدن حذَّر سلطات كييف، علنا، ناصحا إياها بضرورة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الموعودة، وإلا ستكون شاهدة على انسحاب الاتحاد الأوروبي من العقوبات المفروضة على روسيا. هذا التصريح وإن كان تحذيرا وتكشيرا عن الأنياب، أو حتى إظهار "العين الخمراء" لخلفاء واشنطن في كييف، فهو من جهة أخرى، مخاوف حقيقية من أن يتسبب فشل الحلفاء الأوكرانيين في إدارة بلادهم، وفي مكافحة الفساد، وفي الرضوخ للتيارات القومية المتطرفة، والإذعان لمغامرات الليبراليين الجدد، في إفساد الورقة الأوكرانية التي تستخدمها واشنطن للضغط على موسكو، واستعداء أوروبا وتجييشها ضدها.
وفي الحقيقة، فقد كشف بايدن عن هذه المخاوف عندما شدد على أنهم قلقون في واشنطن من معرفتهم الأكيدة بأنه في حال قدَّمت كييف مبررا للاتحاد الأوروبي، فهناك ثمة 5 دول على الأقل ترغب الآن في الإعلان عن انسحابها من العقوبات ضد موسكو. بل واعترف بايدن بأنه يضِّيع خلال محادثات هاتفية مع المسؤولين في أوكرانيا من ساعتين إلى ثلاث ساعات أسبوعيا لحثهم على المضي قدما في الإصلاحات بينما يضغط أيضا على ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لإبقاء العقوبات. ما يعني أن الدول الأوروبية الكبرى بدأت تشعر بتململ من المماطلات الأوكرانية ليس فقط في تنفيذ اتفاقات مينسك، بل وأيضا عدم قدرة كييف على تنفيذ التزاماتها بشأن مكافحة الفساد ومواجهة القوى القومية المتطرفة، والتغلب على حالة الانهيار العام في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
الفشل الأوكراني يستنزف ليس فقط المعونات والقروض الغربية، بل ويبدد قروض صندوق النقد التي يجب أن تسددها الأجيال الأوكرانية المقبلة، ويهدر طاقات وثروات البلاد التي من الطبيعي أن تساهم في رفع مستوى معيشة المواطن الأوكراني. هذا الفشل، لا يقلق الولايات المتحدة لكونه يدمر الدولة الأوكرانية، بقدر ما يقلقها ويثير مخاوفها لأنه قد يعطي ذريعة لدول أوروبية كبرى لكسر طوق العقوبات الاقتصادية والعودة للتعاون مع روسيا. هذه المعادلة "الجهنمية الضارة" التي ترتكز على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" والتي أصبح من ضحاياها ليس فقط الشعب الأوكراني، بل وأيضا اقتصادات دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبعض الدول الاسكندنافية.. هذه المعادلة أصبحت تشكل ضررا كبيرا للمواطن الأوروبي. غير أن كل ذلك، لا يهم الولايات المتحدة لا من بعيد أو قريب، إلا بالقدر الذي يمكن أن تتضرر به روسيا، بصرف النظر عن ما يحدث للأوكرانيين أو الأوروبيين.
تحذيرات بايدن لم تأت من فراغ. فسلطات كييف تعيش خارج الزمن، وتتغذى فقط على عدائها لروسيا، واستعداء الجميع ضدها، بصرف النظر عن الخسائر الفادحة التي يتكبدها الشعب الأوكراني، والانهيار الواضح في غالبية المؤسسات ومناحي الحياة في أوكرانيا. والغريب أن الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو هو الذي بات يقود هذه الحملة. فهو تارة يعلن أن "روسيا تخطط لاحتلال أوكرانيا"، وتارة أخرى يؤكد أن "روسيا تحشد قواتها لدخول بلاده"، وتارة ثالثة يعلن رفع درجة الاستعداد القصوى واستدعاء قوات الاحتياط "لمواجهة العدو الروسي"، وتارة رابعة يطالب الغرب بتمديد العقوبات وتوسيعها ضد "العدو الروسي الذي يريد غزو أوكرانيا واحتلال أوروبا"، وتارة خامسة يدعو الغرب لعدم الاعتراف بالانتخابات البرلمانية في روسيا الاتحادية...
بوروشينكو يجد الوقت والطاقة لكل ذلك، ولكنه، ورغم كل المليارات التي يحصل عليها كمساعدات وقروض، لا يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة بالاقتصاد الأوكراني، أو إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، أو حتى لم شمل الدولة التي تعاني من حرب أهلية بسبب سياسات كييف ومغامراتها. والحديث يدور هنا عن ضرورة تنفيذ اتفاقات مينسك، وكل المقررات التي تم التوافق عليها برعاية رباعية "نورماندي" التي تضم روسيا وألمانيا وفرنسا والطرف الأوكراني الغارق في نزاعه مع سكان شرق البلاد.
لقد أعلنت مجموعة الاتصال الثلاثية أنها وقعت، يوم 21 سبتمبر/ أيلول الحال في مينسك، "اتفاق إطار" للفصل بين القوات في ثلاث مناطق في دونباس (بلدات لوجانسكايا وزولوتويه وبيتروفسكويه). هذه الوثيقة التي تتكون من صفحتين،دخلت حيز التنفيذ بشكل فوري، اعتباراً من لحظة توقيعها. وسوف تقوم بعثة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بمراقبة عملية الفصل بين القوات ضمن المناطق المتفق عليها.
المهم في هذا "الاتفاق الإطاري" أن فترة عملية فصل القوات في دونباس يجب أن لا تتجاوز 30 يوما، فيما يتعلق بجميع المناطق على طول خط التماس في الإقليم، تحت إشراف بعثة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالتزامن، وأن تنتهي في مدة أقصاها 3 أيام. وفي حال انتهاك نظام الهدنة، يحق لأي طرف من أطراف الصراع أن يطلب عقد اجتماع طارئ لمجموعة الاتصال خلال 24 ساعة. وفي حال استمرار حالة انتهاك الهدنة لأكثر من ساعتين، يتم تعليق سحب القوات وإعادة القوات والأسلحة إلى مواقعها الأصلية.
هذا التوجه في تسوية الأزمة الأوكرانية الدراخلية، توجه بناء للغاية، ويلبي مصالح أطراف الأزمة في المرحلة الراهنة، ويؤكد على أن جهود مجموعة "نورماندي" لم تذهب هباء. ولكن لا ضمانات إلى الآن لتنفيذ هذه الوثيقة من طرف كييف التي تخضع تماما لإملاءات واشنطن من جهة، وضغوط القوميين المتطرفين والليبراليين الجدد من جهة أخرى. كما أن تنفيذ هذه الوثيقة، يتطلب حيادية ومهنية من جانب بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ولكن من جهة أخرى، ووفق تقارير روسية، فالولايات المتحدة لن تترك الأمور تسير بهدوء، لأن الملف الأوكراني يمثل ورقة رابحة في يد واشنطن لإحكام قبضتها الأمنية على أوروبا، ومحاولة تقييد أي طموحات لروسيا، ولربطه بملفات أخرى أيضا.