افراسيانت - أمين بن مسعود - لم تخرج الضربة الأميركية لمدينة صبراتة الليبية والتي قضت بمقتل العشرات من الإرهابيين التونسيين عن الديباجات العسكرية الممهدة لأي تدخل أميركي في دول العالم العربي والإسلامي.
“ضربة صبراتة” كانت نموذجا وعيّنة ومقدّمة للتدخّل العسكري الدولي الوشيك، حيث يبدو أنّ واشنطن وحلفاءها المتمثلين أساسا في لندن وروما وباريس قد اختارت “نموذج كوباني” من حيث تركيز الضربات الجوّية على معاقل الدواعش مع تجنيد وتحريض وتجيير القوات المحلية على الانقضاض على الأرض والمعابر.
من الواضح أنّ ضربة صبراتة تجسّد الفلسفة الأميركية العسكرية الجديدة، والمتمثلة في أقلّ التكاليف المادية والمعنويّة في مقابل أعلى درجات النجاعة والمردوديّة من حيث إلحاق الخسائر بالخصم المفترض.
لا يبدو أنّ واشنطن اليوم مستعدة للتدخل البري الواسع ولا المحدود في ليبيا نظرا لعدّة اعتبارات من بينها أنّ أهدافها مقتصرة على تحجيم الوجود الإرهابي في ليبيا وليس استئصاله ومنعه من تحقيق ثلاثة أهداف على الأقل وهي؛ السيطرة على آبار النفط، تهديد السواحل الأوروبية بجحافل المهاجرين غير الشرعيين، والالتقاء الجغرافي بدواعش تونس والجزائر وتنظيم القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي.
على مدى عقد من الزمان بنت واشنطن عقيدتها العسكريّة الجديدة على تقليص الخسائر البشريّة والماديّة، والاعتماد على الميليشيات المسلحة في الأرض لمقاتلة الإرهابيين دون تورّط في المشهديّة الميدانية بأي حال من الأحوال.
والحقيقة أنّ واشنطن لم تنجح في كافّة تدخلات السماوات المفتوحة من تحقيق أي منجز عسكري، سواء في العراق ضدّ “داعش”، أو في أفغانستان وباكستان ضدّ “طالبان”، أو في اليمن والصومال ضدّ “القاعدة”.
بل على العكس من ذلك تحالفت عوامل الضعف العسكري للميليشيات شبه الرسميّة، مع الهشاشة السياسية والإدارية للسلطات المركزية، مع “القنابل” الصديقة التي خلّفت مئات القتلى من الأبرياء من الأطفال والرضع والشيوخ في أفغانستان وباكستان إلى تأليب الرأي العام ضدّ واشنطن بل إلى تنديد كابول ممثلة في حامد قرضاي، حليف أميركا وإسلام أباد مجسّدة في برويز مشرّف وغيره صديق العام سام، بالضربات الأميركية وبالدور الأميركي في أجواء البلدين.
اليوم واشنطن تحافظ على عقيدة الانسحاب والتدخّل المحدود في ليبيا ولكن على شاكلة كوباني في سوريا وأربيل في العراق، حيث لا تهتمّ كثيرا بالدفاع عن العاصمة المركزيّة بقدر ما يهمّها الدفاع عن حدود الكيان الكرديّ في سوريا والعراق والذي يعمل على تأمين المصالح الجيو استراتيجية لواشنطن من حيث تقسيم سوريا وتأصيل الانفصال في العراق.
بنفس البراغماتية والماكيفيالية في الأداء ستتدخّل الولايات المتحدة في ليبيا وستعمل على الدفاع على بانوراما الميليشيات التي سيفرّخها استحقاق مقاومة الإرهاب من جهة، وضعف الجيش المركزي من جهة ثانية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ جزءا معتبرا من أمازيغ ليبيا لن يجدوا فرصة مواتية لتحقيق كيانهم ولإنجاز حلمهم أحسن من فرصة رسم الحدود الجديدة لكيانهم الوليد على رسم الدفاع عن هوياتهم وخصوصياتهم الإثنية والثقافية والتاريخية ضدّ رياح التكفير ولوثات التهجير والتفسيق.
وسط غياب الدولة، وفي ظلّ اللا سلطة واللا ثورة، تعود الشعوب إلى حدود ما قبل الدولة الوطنيّة وتستحضر الهويات الجزئيّة؛ هويات “ما قبل الدولة” و”ما بعدها” أيضا.
بيد أنّ الارتداد إلى مكوّنات ومحددات ما قبل الدولة من قبيلة وطائفة وإثنية يكون أكثر ترسّخا وتأصيلا عندما يتزامن مع سياقين كبيرين:
الأوّل نهاية الدولة بمعنى تفتت المؤسسات وتلاشي السلطات، والثاني نهاية التاريخ بمعنى انقضاض التيارات التكفيرية على المجتمع وعلى الحاضر والمستقبل معا.
وهو أمر لا يقتصر فقط على الأمازيغ، وإنما ينسحب أيضا على التبو والطوارق، ولئن كان الأمازيغ هم الأقرب إلى الانفصال الناعم والخروج الهادئ لا سيما وأنّ أدبيات دولة “تمازغا الكبرى” شهدت مؤخرا طفرة واسعة مع اعتراف النظامين المغربي والجزائري بالأمازيغية لغة وطنية رسميّة وثقافة شعبية أصيلة وتضمين هذه المبادئ في الدستور المغربي وفي مسودة الدستور الجزائري.
مع كلّ تدخّل أميركي -يدبّج عادة بعناوين محاربة الإرهاب والدفاع عن الشعوب- تولد كيانات إثنية جديدة، كان التدخل في السودان ومحدوديّة حكامه مقدّمة لولادة جنوب السودان، وكان التدخل في العراق إرهاصا لنشأة كردستان، وكان الانخراط في سوريا بداية تأسيس كردستان سوريا، ولن يخرج التدخل في ليبيا عن هذه المقاربة.
وفي كلّ مرحلة كانت الإثنية القلقة حاضرة، والهويّة المسلحة جاهزة والحدود التاريخية مرسومة في قلوب من في الأرض وفي عقول من في السماء.
* نقلا عن "العرب"