مجلة افراسيا - د. نادي ساري الديك* - الانتفاضة الفلسطينية حدث متواصل العطاء، فهو ليس كباقي الاحداث والمواقف التي مرت بها فلسطين ارضاً وشعباً، منذ اواخر القرن الماضي ولهذا اليوم، وانما هو عمل وحد كل شرائح الشعب بكل توجهاتها، وهذا لا يعني ان الشعب لم يكن موحدا في يوم من الايام، وانما لا بد من ذكر وقع الاحداث واهميتها بأمانة، لنرى ما يصبوا اليه المنتفضون وأدبهم.
فالكتابة عن ادب الانتفاضة يعني توثيقاً لها، لان للادب وللشعر خاصة أهمية لا توصف وقيمة لا تثمن، فحالة التنبؤ قد لا تتحقق على ارض الواقع من خلال التاريخ وحده، وفي مثل هذا الواقع يأتي دور الشعر الفاعل في بناء الحدث ونموه، فمثل هذا يعني تأصيل لثوابت آمن بها شعب يرزح تحت نيران الاستيطان منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمن وهذا تخليد للجميع (للادب وصانعيه).
فالانتفاضة دعوة الحياة، بكل ما تعنيه تلك الدعوة من معاني، فهي لم تأت من فراغ، ولم تكن تجيء مفاجئة للواقع، وانما جاءت نتيجة كمعطيات وتراكمات طويلة أدت إلى بزوغ ما يجري، بعد اكتمال نموها، فمثل هذا الامر يجعل الناس يوقنون بدور الذين يعايشون الحدث، فالمبدع الحقيقي هو الذي يعيش الحياة يكل أنماطها، حيثما يكون مع اتصال مباشر مع واقعه دون زيف أو رياء.
فمن معاني الانتفاضة، الثورة على كل سقيم ومريض من توجهات الشعب ومواقف الامة فهي دعوة مباشرة إلى التخلص والانعتاق من كل شيء يحد من توجهات الجماهير.
فالواقع الذي نتلمسه بعد مرور تلك الاحداث يرينا الشعر الفلسطيني وقد ظهرت في روحه تجليات جديدة، بروح تعبيرية شيقة، لم يتوشح بها الشعراء من قبل الا نادراً وانما اصبحت 1وشاحا ذا لون متعارف عليه. حيث ابتعد بعض الشعراء عن الترف الفكري، وبعضهم الآخر وازن بين الفكر والتاريخ ومتطلبات المرحلة، وكذلك ابتعدوا عن الايغال في الرموز واللغة المثقلة والمبهمة، التي قد توصل القارئ إلى دهاليز العتمة احيانا.
من هنا بدأ الشاعر وضوحه وقربه من الناس، وهذا لا يعني اننا نطالب الشاعر كي يصبح خطيبا أو داعيا اجتماعيا أو غير ذلك. وانما من خلال دراستنا لبعض النصوص، وجدنا الايغال والتعقيد يسيطران على بعض النتاجات الشعرية، الا ان الشعر او بعضه المكتوب في زمن الانتفاضة قد جعلنا نحس بتراجع هذه الصفة نوعا ما.
فمثل هذا الادب يخاطب ابطال الحدث المستمر بكل شرائحهم وتوجهاتهم واعمارهم بكل تفاعل تام (بمعنى تعبوية المرحلة) واستمرارية الغضب الفاعل، وتلاحم الادب مع الحجر ليصنعا بعض الامل من جديد، فهذا الشعر اصبح يبشر بغد مشرق، ويرينا مدى التفاعل التام مع الحدث على النقيض من بعض الاشعار التي نظمت بعد الهزائم التي لحقت بالعرب منذ عام 1948 وليومنا هذا.
فالكلمة المفعمة بالامل بدأنا نقرأها ونسمعها ونشاهد اثارها وهي تجذر نفسها في النفوس والاذهان، وتتمدد على ارض الوضع الصلبة. فكما يقول عبد الاله يلفريز تأييداً لما نصبوا اليه "لقد كان المسلّم به ان الشعب الفلسطيني لا يحسن ان يتكلم واذا تكلم فانه يفسد اللعبة، وها هو بانتفاضته قد تكلم وافسد عليهم اللعبة"(1).
فهذا الفساد لم يكن عاما، وانما شمل المتلاعبين بمصير الآخرين، وزاد من ثبات القابضين على الجمر بكل ثقة منذ سنين طويلة، فهم موقنون بتغير الزمن، وسوف تأتي ساعة الخلاص ان في زمانهم أو فيما بعد، لذا كانت الانتفاضة بالنسبة لهم عاملاً مساعداً على الاستئناس بدم ورأي جديدين، فهم موقنون ومؤمنون بالانبعاث التدريجي. فالانتفاضة احد بوادر الانبعاث لقضية طال عمرها، بعد محاولات الاعداء الدائمة لقتلها، وخلق حلول ومسوغات تكون اقرب لنهجهم المراد.
هذه الرؤية للانتفاضة من قبل جميع التوجهات جعلت لكل جماعة تاريخا أو يوما، جعل يوم الانتفاضة (الانطلاقة) فمنهم من يراه يوم 7/12/1987م، ومنهم من يراه قبل ذلك بقليل. فالذي نميل اليه ان الانتفاضة بدأت مع بدء التمرد المدني الفلسطيني على الواقع الجديد (الاحتلال) وهذا التمرد اوصل الناس إلى ثورة مدنية منظمة ادت إلى زعزعة بعض الثوابت للنظم السياسية الحاكمة في كيان اسرائيل، و جعلت الجندي المعتدي يشك بانتمائه العسكري إلى حد ما، فهذه الثورة كانت تسير بخطى ثابتة الا انها متفاوتة، غير ان الخطوة الاخيرة (الانتفاضة) استمرت حسب ثوابت وايقاع خاص، فقول الشاعر السوري (عبد الكريم الناعم) جاء متناغما مع ما تصبوا اليه، حيث جعل يوم 25/11/1987 يوم الانتفاضة، وهو يوم الانقضاض بالطائرة الشراعية على احد معسكرات العدو شمال فلسطين أي مقدمة في عملية الاشتعال المستمر، وفي قصيدته يمجد الناعم الشهيد خالد اكرم وابطال عملية قبية. افتح ذراعك/ قلبك العربي فوق الغصن/ قم في الليل ان قيامه في الليل اجدى/ سبح وانت تغادر الارض الحرام إلى حلالك في الجليل/ انا سنلقي فوق كاهلك المبجّل ذلك العبئ الثقيل.(2)
هذه المناجاة، وهذه المطاليب من شاعر سوري لفدائي فلسطيني، يصنع ما لا يستطيع صنعه الآخرون، تدلل لنا اللحّمة في المشاعر ومدى قوة الايمان بالتحرير والحرية عند المواطن العربي، الذي كبل بقوانين، ونظم بعيدة عن ميوله وافكاره، كي تمنع العمل الجاد والقول الفاعل في كثير من الاحيان، فهذا الخطاب اقرار من العاجز عن العمل لمن يعمل (الفدائي) بهذه اللغة المفعمة بالصور والبلاغة القرآنية والمحملة بمضامين سياسية (قم في الليل ان قيامه في الليل/ اجدى/سبح وانت تغادر الارض الحرام) فمثل هذا النظم يحيلنا لقوله سبحانه وتعالى "قم الليل الا قليلا"(3) وكذلك قوله عز وجل "سبح باسم ربك الاعلى، الذي خلق فسوى"(4).
هذا الافعام بالحرية والحركة والعمل الصائب والناس نيام أو سكارى، نتيجة لفعل فاعل يعي ما تصنع (السياسة) والشاعر يوقن باشفاق تام ما تصبوا اليه الجماهير، على مشاعرنا ووحدة رؤيتها المكبلة بالنظم الصارمة، تلك النظم التي حملت الشاعر ما حملته من افكار وقناعات تبين عجز من يوالون الفدائي مع مقدرة الفدائي على العمل الفدائي على الرغم من قيوده الفعلية، الا انه استطاع اتخاذ القرار وفعل ما يجب فعله منذ زمن بعيد.
فمخاطبة المانع هذه تؤكد عجز المواطن العربي عن تقديم أي عمل يذكر، وهذا ما حدث فعلا، وهذا الامر لم يأت به الشاعر تصريحا وانما جاء مضمنا ويستشف من السياق العام للقصيدة، اذ يلقى على كاهل الفدائي ذلك العبء (والحقيقة كذلك) لان الفدائي وحيد الصراع، يصارع القوى وصرخة الشاعر ابراهيم نصر الله وان كانت مفجعة، فهي توضح الصورة تماماً للشارع العربي، على الرغم من قتامتها وما تخلفه من يأس واحباط في النفس ولها، الا انها صادقة، فشوارع العرب كما يراها الشاعر محبطة مقفرة من كل ونيس، فزوابع الغيظ لا تخلق الا الهواء الخانق، والعتمة المميتة لا الحقيقة، فهذا يناسب العربي الذي لا يستره شيء.
ناديت يا ايها النائمون
اما من جواد يتقدم
كي يستر الآن عري هذي الدماء(5)
هذا النداء لم يصدر بعفوية الوجدان، وانما النداء الصادر عن يقين وعقل فاعلين، فصاحب النداء هو الآخر يعيش حياة مؤلمة، فهو واحد من الجماهير التي تريد الصلاح والحرية، الا انها تصدم بواقع شارعها السياسي، فتعي ما هي عليه من مراهنات وابتعاد عن الحقيقة، مثل هذه العبارة (ناديت يا ايها النائمون) تعطينا تعابير فكرية بدلالات رمزية تنم عن ايمان بشيء مراد بحد ذاته، حيث ان هذه الكلمات وغيرها خلقت ليظهر الصراع بين ضدين متنازعين هما صوت الشاعر (الفاعل) للخير و الآخرين الذين يراد منهم خيرا، لكن لا مجيب، لهذا ترتبط الصور باهتزازات وجدانية تعيش مع كل رفاق المنادي واضادهم، وكأن الشاعر يستنكر ان يكون الواقع كما هو مع يقينه المسبق بما يحدث وسيحدث، الا انه غلّب نوازع الخير وجعلها تسبق غيرها باستغاثته الحتمية، بالذين نعتهم باصحاب ستر العري، هذا الامر يوقنه شاعر آخر، الا وهو درويش ويوازن بنفس متفاعلة مع الحدث، مستجيبة لطموحات وانفعالات الناس فقال بصوت مسموع دون تنكر:
ايها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا اسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء
ايها المارون بين الكلمات العابرة
آن ان تنصرفوا
وتقيموا اينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الاول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
فاخرجوا من ارضنا/ من برنا.. من بحرنا
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
من كل شيء واخرجوا
من ذكريات الذاكرة(6)
فهنا نجد الخطاب مع العدو نفسه، وبصورة مباشرة شجاعة لا بكائية، لان المخاطب هنا العدو لا الانسان العربي كما هو الحال عند ابراهيم نصر الله، فهذا التفاعل والانسجام في لغة الشاعر، كادت لا تتحقق لو لا عملية الانسجام الفاعلة بين الشاعر واصحاب الانتفاضة، وكأنه يصرخ علانية بمضامين وهتافات اشبال الحجارة، لكن مثل هذا الامر جاء بلغة ناجحة وفاعلة، ومقارنة شيقة تنم عن فكر وعقل ناضجين، فالخطاب جاء مع العدو بداية، حيث الطلب المباشر لرحيله، لذا جاء بصورة توكيدية (آن ان تنصرفوا، آن ان تنصرفوا) وهذا الامر يبين لنا عملية الاصرار على الطلب المراد (الرحيل-الانصراف) مع التهكم من الآخرين حيث لا يريدهم ان يموتوا على ارض فلسطين، وكأنه يرفض بقاء بقايا من بقاياهم، حيث تتحلل اجسادهم فتصبح جزء من التربة، لذا يرفض الشاعر مثل هذا الامر، وهذا الرفض يردفه الشاعر بسياق جميل آخر، هو مقارنة بين العدو وصاحب الحق (الفلسطيني).
فلصاحب الارض اعمال كثيرة يستطيع القيام به، فعلاقة الود قائمة بين الارض وصاحبها، لأنها مبتداه ومنتهاه، فالماضي والحاضر والمستقبل كلها مجتمعة لصالح الارض وصاحبها (الفلسطيني) وكذلك بداية الحياة والاستقرار كانا على ارض فلسطين (ولنا صوت الحياة الاول) فعملية التمسك بالارض هي عملية ذهنية شعورية جسدية، فهي تمثل الحقوق الدنيوية والاخروية (ولنا الدنيا هنا والآخرة) هذه مقارنة ناجحة لان الشيء الذي ياخذه العدو هو الوهم وان طال الزمن، فالشاعر لم يمنح العدو شيئا سوى (زرقة البحر) فزرقة البحر كما نحسها ما هي الا كناية عن الوهم، لان الماء لا لون له ولا رائحة فأية زرقة هذه التي سيأخذونها، لذا لا يأخذون الا صورا وهمية للبحر الفضفاض، والبحر رمز يحمل عدة مداليل فقد يكون رمزا للعطاء أو للالم أو غير ذلك، الا ان نحس السعة هو الرمز المراد للبحر هنا، حيث السعة الغير محدودة في الذهن، كي ياخذوا الشيء الكثير من الوهم لهذا انعدمت امتيازات العدو حتى في لغة الشاعر وشعره، فقد تدخلت النظم واصبح لكل شاعر رؤيته لكن جميع الشعراء تقريبا كانت وجهات نظرهم واحدة، وان اختلفوا في اداة التعبير، فبما ان درويشا جعل موقف العدو عائما، حيث الرحيل والاخذ من زرقة البحر (الوهم) ما يشاؤون الا ان سميح القاسم جاء صوته مباشرا وفاعلا ايضا، بمباشرته وصراحته الفاعلتين مع قلة الرموز المثقلة للغة الشاعر في قصيدة "الموت ولا الركوع" فهو من خلال هذه القصيدة يعمل عمل المذيع الناجح، لكن بلغة شاعرية تحمل في ثناياها موسيقى تحريضية انتقامية فيقول:
تقدموا/يصيح كل حجر مغتصب/ تصرخ كل ساحة من غضب/ يضج كل عصب الموت لا الركوع/ موت ولا ركوع/ تقدموا هاهو ذا تقدم المخيم/ تقدم الجريح والذبيح والثاكل/ والميتم/ تقدمت حجارة المنازل/ تقدمت بكارة السنابل/ تقدم الرضع والعجز والارامل/ تقدمت ابواب جنين ونابلس/ اتت نوافذ القدس صلاة/الشمس والبخور والتوابل/ تقدمت تقاتل؟ / لا تسمعوا/ لا تفهموا/ تقدموا/ كل سماء فوقكم جهنم/ وكل ارض تحتكم جهنم
المباشرة والوضوح هذان يبرزان مدى اهمية موقف القاسم فهو لم يعر اهمية للمحسنات اللفظية والبديعية، وكذلك لم يجتهد في خلق صورة وشحنها برموز تعجز الاخرين عن الفهم والتذوق المباشرين احيانا، فمثل هذا الصوت يرينا مدى الارتباط الصميمي الجاد بالارض والانتفاضة، حتى نرى ان مقتنيات المخيم ومفردات المعركة اليومية تاخذ حيزها الفعلي في شعر القاسم، فمثل هذا الامر لا يعد عيبا أو قصورا في اداة الشاعر(اللغة) وانما هو ينبوع اخر من ينابيع الانتفاضة التي جعلتنا نرى حياة جديدة مغايرة لحياة كانت أو سوف تحدث.
والواقع ان كلمة تقدموا وهي الصورة المحورية للقصيدة ليست كلمة عابرة، أو عادية التداول هنا وان كانت متداولة بشكل ملفت للنظر لدى الناس، لكنها رمز للحياة، لحياة الناس في زمن الانتفاضة، فالتقدم يعطي الحياة لاستمرارية الحدث للانتفاضة التي توفر للناس رؤية جديدة للحياة، والشاعر يكرر مفردة (تقدموا) وكأنها ناقوس يدق ليجتمع الناس في سوح الوغى.
لذا استطاع كل من درويش والقاسم ان يرتفعا بمقام الحدث إلى ذرى لم يبلغها شاعر آخر من قبل، وان تساوت بعض نتاجات الشعراء مع نتاجهما، فكل منها يرسم صورة فاعلة بالامل ومبشرة بفجر جديد، للجيل المنتفض الجديد، من هنا يتبدى الدور الفاعل الذي لعبته لغة القاسم في عملية الادراك اذا ابتعد عن المقاييس العقلية للشعر لفهم الواقع وتصويره، لذلك لم يجد الانسان لبسا في التلقي وهذا طابع قصيدته الفني، حيث فلسفته في خلق صورة فاعلة دون تعقيد أو تلميح، يثقل على أي سامع فهم النصوص المطروقة، لبيان من تصبوا اليه حواس الناس، فمثل هذا الامر لا يعني تغيب العقل لدى المرسل والمستقبل (الشاعر والجمهور) لفهم الواقع أو الانضمام الفاعل مع الحدث، فالحواس والمشاعر تشكل طريقا سهلا لمعرفة احوال الشيء، وكذلك للعقل دوره وميزته الكبيرين لفهم الزمن ورؤيته لان (الزمن نفسه كائن متخيل، ولكنه شرط للادراك الحسي)(8).
وبما ان اشعار الانتفاضة خلقت لتتفاعل مع الناس، ويتفاعل الناس معها، بعدة طرق واساليب متبعة، فقد تنشد أو تغني أو تكون من محفوظات الناس لتأخذ حيزها الفعلي، وفي هذه السياق يقول درويش: (وهل في وسع الشعر ان يجدد انتاج حياته بغير هذا الحلق... وبغير هذه الاذن... وبغير هذا الاتصال؟ ليس مقياس الشاعرية ان يقرأ الشعر - من وضع هذا المقياس؟ بل ان يسمح ان يغنى - وان يعاد انتاجه على مستوى علاقة...)(9)
فدرويش الشاعر يعترض قول من يعتقد ان الشعر خلق ليقرأ، فهذا الامر ليس سهلا. لذا نقول ان شعر الانتفاضة أو الذي قيل في زمنها وجد ليتفاعل مع الناس والناس معه، كل حسب مقدرة تفاعله.
لذلك لا نريد الخوض في ماهية الشعر وخلقه واهدافه، وانما نريد الوصول إلى حقيقة غير تلك الحقيقة، وهي ان شعر الانتفاضة يمتاز عن غيره باشياء قد لا تتوفر في اشعار اخرى مثل البساطة في التعبير والوضوح بالرؤيا وسرعة التداول بين الناس وغير ذلك، وهذا الامر جعل رؤية الناس للشعر تأخذ مسارا آخر إلى جانب الرؤيا الاولى، فالجميع قد يوقنون بأهمية توصيل صورة الواقع والحدث للناس كافة، في كل زمان ومكان، فالايغال والتعقيد استبعدا تقريبا فيما يخص أبجدية الصلة مع الحدث (الانتفاضة) واما ما يخص الشق الآخر من المعادلة فأنا نرى ونلمس لغة ناقمة وفاعلة بتهكمها السياسي والسخرية المرة التي تحتويها من الآخرين (الذين لا يصنعون شيئا) بينما المنتفضون يصنعون اشياء كثيرة، لهذا نعود إلى لغة ابراهيم نصر الله مرة اخرى، لنشاهدها وهو يخاطب المدينة العربية ومواطنها العربي، والسلطان العثماني والمحتل، ليعطينا صورة صادقة تبرز للجميع علاقة الناس بالناس، فهو يرينا مدى الغضب والانفعال الناتجين عن الموقف المراد تصويره (اللامبالاة) من الحدث ان كان ذلك مقصودا ام غيره.
سقطت مدن وعواصم/ لكن قاتلنا لم يزل سيدا.
في كل عرس له ألف قرص/ ويصعد في كل يوم علينا
ومن دمنا منشداً مزبداً/ أخي حاوز الظالمون المدى
وانتظرنا.. انتظرنا/ فلا حق ذاك الجهاد
ولا حق ذاك الفدى
ان أسوأ ما تعيشه هي المواجهة الحقيقة التي نلمسها بين السلطة والجمهور، بكل أشكالها، حيث تجسدت هذه المواجهة بكل مقتنيات الحياة، ونتاجاتها، الا انها تبلورت بلورة صحيحة وناضجة عند الشعراء المريدين للحرية، لا شعراء (المدح والقدح) فالشعر هنا يرينا الخلل المزدوج، وهذا الخلل اصبح بضاعة العصر، يباع ويشرى من قبل تجار الحياة، لذا فشعر نصر الله هنا قد ساهم في خلق وتصوير هذه المعاناة، وهذا الوضع لا يبعث على الارتياح، هذا التصوير قام على وعي تام من الشعراء وجمهورهم، فالجميع يؤمنون بالمواجهة الحقيقية بين الماضي والحاضر الفاعلين، فلا يستطيع المرء الانسلاخ عن ماضيه، فالانسان الواعي هو الذي يحتوي هذه المواجهة الفاعلة بين الاضداد، ونحن حينما نحكم بعدم صلاحية أو اهلية المواقف المناهضة للحياة من جانب الكثيرين والمعنيين، فنحن لا نصنع الا ما نحسه ونراه.
فالشاعر هنا يذكرنا بالانتظار وبالوعود التي طالما سمعنا عنها أو عاصرنا دعاتها واصحابها، كي تكون الصورة واضحة جلية تمام الجلاء، فالشاعر يقر عن يقين تام بالمعادلة الصعبة، فبصراحة مطلقة يخبرنا عما جرى ويجري (سقطت مدن وعواصم) فمثل هذا السقوط لم يغير من الامر شيئا، لان العدو بقي سيدا، وكلمة السيادة هنا مطلقة لم تحدد (لكن قاتلنا لم يزل سيدا) هذه المعادلة في جعل العدو سيدا ومنشدا ومتاجرا وعازفا على اوتار صنعت من دمنا!! ما هي الا تبيان حال وفضح الواقع الذي يجعلنا نؤمن بازدواجية العدو (المحتل، المتآمرون) وهذا ما يؤكده تهكم الشاعر الصارخ عندما يضمن شطرا من بيت شاعر عربي يستنجد بأخيه ويريه الحال المؤلم (اخي جاوز الظالمون المدى) لان هذا التجاوز لم يجد الرادع الفاعل، لذا طال انتظار الجماهير، وبهذا يكون النفي المطلق بصورة مؤلمة (انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا) فالانتظار جاء بصورة توكيدية (ثلاث مرات) هذا التوكيد يرادفه نقيضا لموقف الشاعر العربي عندما قالي:-
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
وهذا نقيض الذي جاء به الشاعر لم يدم طويلا، كونه لم يرد اظهار حال النقيض دون وضع حل مناسب، فما ان وضح صورة الانسان العربي ومدينته حتى جاء بصورة الانسان الذي يتشهى شيئا، وهذه الشهوة حددت المعالم، اذ لم تترك عائمة، فهي ليست بعيدة المنال، لان رؤية خيط من النور (الحرية) (التفاعل) يهتف باسم البلاد فعلا، يغير وجه الحقيقة برمته، حيث النشيد لم يكن منقطعا عن الامل، أو لم يكن مطلبا ليواسي الانسان نفسه، وانما هو مطلب انقلابي يريده الشاعر ليغير الحياة رأسها على عقبها، فالشهوة تبقى معلقة حتى تتداعى كل الحواجز التي بقيت في حياة الجميع (الناس والشارع). عندها لا يأس من وجود وحلول أو شعارات ترفع تأييدا للحدث المتواصل، فالشاعر يتجاوب بأحاسيسه الملموسة وغير الملموسة مع الانتفاضة، ولكي يزيد من حالة الوعي للمدينة العربية، نجده وقد رفع شعارات بوساطة كلمات رسمت ليرسخ دعامة فكرته المبتغاة، فالانتفاضة سبب من الاسباب التي دعت الشاعر إلى رفع مثل هذه الشعارات، وان نجد ذلك عند كثير من شعراء العربية المعاصرين، والشعراء الفلسطينيين خاصة، حيث الشعارات السياسية والمضامين الفكرية تملأ سطور اشعارهم، الا ان هذا الحدث (الانتفاضة) قد زاد من شعرية المواقف لدى الآخرين، مثل هذا يريده ابراهيم نصر الله في القصيدة نفسها:
ارى ما ارى من موات/ طحالب تجتاح راياتنا/ تمني بنادقنا المفرغات بيوم الظفر/ تشهيت ان يهب التراب/ ليصعد من وحل هذي الحفر.
فالشاعر بهذه الصياغة قد تبرأ من لغة كانت مشاعا لشعراء سابقين له، فجاءت البراءة بنوع من التهكم والسخرية والرفض لما قيل كما جاء في قول الشاعر السابق (أخي جاوز الظالمون المدى) أو غيره من شعراء العربية الذين نسجوا بمفرداتهم صورا زاهية وتتفاعل مع الحدث العربي أو متأملة خيرا بالواقع العربي، فمثل هذا القول (يأخذ هذا الشكل ليكون ينبوعا للحياة).(10)
وهذا الامر الذي نقر به، يدحض الرأي الذي قيل عن الشعراء الفلسطينيين الذين جاءوا بعد ابراهيم طوقان، اذ لا يعبرون الا من الانين والياس، وهذا الرأي جاء به الباحث عمر فروخ حينما قال (ان غالبية شعر المقاومة ما هي الا تعبير عن انسان فرد، يعتبر انه مهمل مظلوم(11) فمثل هذا الرأي يجانب كثيرا دقة الصواب في توجهات شعر المقاومة وان وجدنا ملامح الحزن والاسى والهم وغير ذلك من مقتنيات بيئة اليأس اذا جاز التعبير، الا ان الشعر في زمن الانتفاضة كان يشكل خريطة ادبية فاضحة وكاشفة للواقع العربي، وهذه الابيات ليست من باب التشفي، وانما من باب المصارحة، وكشف الاوراق ليتسنى لكل انسان معرفة نفسه، ان لم يكن قد خبرها بعد، فمثل هذه المكاشفة للحياة بوساطة الاشعار ما هي الا بيان لمعاناة وحقيقة اسمها "الشهادة التي يتدرب فيها الانسان على معانقة الموت معانقة روحية"(12).
ان مثل هذا يجدد شهوة الحياة في خارطة الانسان الفلسطيني، وهذا يحدث بالمواجهة للواقع المؤلم، بالخروج على الظلم، وتحطيم قيود العتاة والفاسدين حتى يرى الانسان ارضه كما يريد ان تكون، أو كما تتمناه ان يكون اذ يحلم الانسان
"يوم ترفعني الاكف في قريتي، فارى الارض كلها، وارى قريتي كلها تلتف من حولي لتأخذني في الطريق الذي اريد"(13).
وشعراء الانتفاضة كما هم اشبالها تطوعوا مخلصين ليقفوا في الخندق الذي تبناه الشعب ليكون منطلقا له، كي يبقي على كرامته، فالانسان لا يعرف نفسه "الا بمقدار ما يصنع نفسه، واما ان يظل مذعورا، واما ان يجعل غيره مذعورا"(14).
من هنا نشعر باحساس كبير، وكأن الشاعر العربي يجعل مفرداته ندا للآخرين، الذين يحرفون مجرى التاريخ حسب اهوائهم وما يملى عليهم، فهو وان رسم بكلماته اجواء الهزيمة، الا انه يجعلنا نتلمس احاسيسه وهو يخاطب ويناجي الوطن، لان كل شيء يأتي من جهة الوطن يحمل سلاما وامنيات، حتى الرياح اصبحت فاعلة، وتجاوبت مع ما يصبوا اليه الشاعر:
كل الرياح تهب حاملة سلامات الوطن
والعائدون إلى المعارك مثقلون
ترمي الشواهد والقصائد خطوهم ابد الزمن
وتظل تعطيهم بشارات الرياح المرسلة
ورؤى يوارها الحواة، تظل ترقبهم
على كل الدروب مهللة(15).
هذه علاقة الشاعر المنفي من وطنه والبعيد عنه جسدا بالحدث، هذه العلاقة التي تخلق لغة واصفة اكثر مما هي لغة فاعلة، ففي هذا السياق نجد الشاعر وقد تفاعل مع الرياح وجعلها متفاعلة مع حدثه، لكن الذي يقرأ قصيدة الشهيد للشاعر نفسه، يجد نفسه امام لغة جديدة أو تعابير جديدة هي غيرها سابقا، فالشاعر متفاعل مع حدث الانتفاضة تفاعلا عميقا، ويرى روحه معلقا في هدب عيون الفارس الموصوف، والذي لم يدع العدو لحظة الا وخلق جولة للمبارزة والمصاولة فيقول عبد الرحيم عمر:
في الدرب متسع/ وذا قلبي يسيل على خطاك
خذني معك/ يا حاملا فرحبي الحبيس مشاعلا
في عرس شعبي/ الارض والاشجار والنجم العلم
بكل درب/ راحت تبارك مخدعك/ ما اروعك(16).
فقصيدة الشاعر هنا لا تحمل جوانب فلسفية أو فكرية غائمة، وانما تحمل الشفافية على مستوياتها كافة، كي تعبر عن تجربة صادقة، اذ مثل هذه التجربة تؤثر على مستويات عدة من ابناء المجتمع، لذا نرى عشقه للوطن يتفاعل تفاعلا واسعا، حيث تسير المشاعر والافكار مع من يبنون اسس قوية للشخص ومن بعدها الشعوب، كي تنقشع الغيوم، ويصير الموت حياة فاعلة من اجل الوطن. لان ارض الشعوب الثائرة تبني المعابد، وتديم الاريج المنبعث من الجراح، فالشهداء حروف شاهدة من أبجديات الوطن للزمن وهو يلتحف صورة الخنادق من اجل ان يبني الآخرون ابراج الحياة.
الهوامش
1) مجلة العودة، العدد (46-47) تموز وآب 1988 - صفحة 225.
2) مجلة العودة، العدد (46-47) تموز وآب 1988 - صفحة 193.
3) سورة المزمل، الآية 2.
4) سورة الاعلى الآية 1-2.
5) الكاتب العربي، العدد23 السنة السابعة، 1989، صفحة 42.
6) الشعر - العدد 51، 12 تموز (يوليو) 1988، صفحة 6-7.
7) مجلة الهلال، مارس (آذار) 1988، صفحة 21.
8) عثمان أمية - دور المثالية في الفلسفة العربية، دار المعارف - القاهرة، صفحة 184.
9) محمود درويش - خمسون عاماً بلا ثورة، مجلة اليوم السابع، باريس، 22 حزيران 1986، صفحة 15.
10) فوزي كريم مجلة شؤون فلسطينية آب 1972 - صفحة 12.
11) مجلة الحوادث اللبنانية 26 آذار، 1971.
12) ايليا حاوي - نشيد الكرامة - مجلة الآداب - عدد (10) 1969، صفحة 144.
13) سهيل نواده، زغرودة الارض - مجلة الطريق - عدد (9) 1970 صفحة 107.
14) فرانتز فانون - معذبو الارض - ترجمة جمال الاتاسي - دار الطليعة بيروت ط2 1966 صفحة 28.
15) عبد الرحيم عمر، أغاني الرحيل السابع - دائرة الثقافة والفنون، عمان 1985 صفحة 46 .
16) عبد الرحيم عمر، مجلة الجامعة عدد (44) عمان - الاردن - ص70.
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- ابراهيم نصر الله - الكاتب العربي عدد 23 السنة السابقة 1989م.
3- إبليا حاوي - نشيد الكرامة - مجلة الآداب - عدد 10 - 1969م.
4- سميح القاسم الهلال - العدد 34 السنة 95 تموز يوليو 1988م.
5- سهيل نواره - زغرودة الارض - مجلة الطريق عدد 9 - 1970م.
6- عبد الاله بلقيز - مجلة الوحدة العدد 46/47 تموز آب 1988م.
7- عبد الكريم الناعم - مجلة الوحدة العدد 46/47 تموز آب 1988م.
8- عبد الرحيم عمر - مجلة اغاني الرحيل السابق - دائرة الثقافة والفنون/ عمان/ 1985.
9- عبد الرحيم عمر/ مجلة الجامعة العدد 44 عمان - الاردن.
10- عثمان امين - رواد المثالية في الفلسفة الغربية - دار المعارف - القاهرة.
11- عمر فروخ - مجلة الحوادث اللبنانية - 26 آذار 1971.
12- فرانتز فانون - معذبو الارض - ترجمة جمال الاتاسي - دار الطليعة بيروت ص2 - 1966م.
13- فوزي كريم - مجلة شؤون فلسطينية آب 1972م.
14- محمود درويش - خمسون عاما بلا لوركا- مجلة اليوم السابع، 22 حزيران باريس 1986م.
15- محمود درويش - مجلة شعر عدد 51 سنة 12 تموز يوليو 1988م.
* باحث فلسطيني