مجلة افراسيا - طارق العربي - شاعر وصحفي من فلسطين - الانتفاضة حدثت، حدثت فعلًا، لكن الذي لم يحدث حتى اللحظة هو انتفاضة في الخطاب السياسي الفلسطيني تلحقه بما يجري على الأرض، سواء كان ذلك عند منظمة التحرير أو عند حركة حماس.
بمعنى أدق لم يرتق أيّ من الطرفين حتى اللحظة إلى اللُحمة التي تجسدت في الشارع، وتجاوزت الحركتين في العمل السياسي الفلسطيني، ولم يتجاوز أي منهما حالة الاستقطاب الحزبي والسياسي التي ميزت الانتفاضة الثانية، والحروب التي أتت على غزة بعد ذلك.
الذي لم يحدث حتى اللحظة هو انتفاضة في الخطاب السياسي الفلسطيني تلحقه بما يجري على الأرض
يمكن القول إن العسف السياسي الفلسطيني، وعسف التقليد الثقافي المتخدنق في حالة اللا حرب واللا سلم، يمنع تبلور الحركة الشعبية على الأرض باتجاه أكثر شمولية. يعني ذلك أن عسف السلطة وعسف المعارضة، وكتاب المواقف المسبقة والناطقين الرسميين الذين لم ينتبهوا حتى اللحظة إلى عمق ما يحدث في القدس.. كل هؤلاء لم يتجاوزوا المرجعيات المختلفة التي أتوا منها، ولم يرتقوا إلى مستوى الحدث أيضًا، بحيث يقف الجميع على مسافة واحدة من إدراك المتظاهرين والمنتفضين.
السلطة وحماس، كلٌّ على حدة، تحاولان تجيير المشهد لصالحهما. وفق ذلك، لا يزال الخطاب السياسي الفلسطيني العام يميل إلى انتفاضة إما من أجل تحسين مواقع التفاوض، أو من أجل نزع الشرعية عن عباس وسلطته، وينسى أن هناك في المدينة من هدم بيته بيده بأوامر إسرائيلية، أو أن الناس في القدس لا يستطيعون الحصول على ترخيص لبناء بيت أو توسعته، فبدلًا من الاستفادة من اللحظة التي أعادت تحديد نمط العلاقة مع الاحتلال، بعد زمن طويل من قيام الاحتلال وحده بفرض صياغته ورؤيته، اعتمادًا على قوته وعلى قدرته في فصل مواطنيه واستقلالهم عن المحيط الغاضب والمشتعل. ما حدث أنّ القدس أعادت رسم حدود الاشتباك من جديد، أي أنّ مشروع الاستيطان الإحلالي لم ينجح.
وفق ذلك، إن عدم الاتفاق على برنامج مرحلي مبني على التراكمية في العمل الشعبي المقاوم، وفي العمل السياسي، ومستندٍ إلى أرضية عنوانها الزخم الشعبي القائم في الضفة الغربية، لا سيما في القدس، مع الاستفادة من الانتفاضتين السابقتين، ما عدا ذلك سوف تضيع هذه الهبة كما ضاعت هبات سابقة.
ما تحتاجه الانتفاضة اليوم هو الإيمان بالقيمة التراكمية وتعزيز مفهومها كمنهج للعمل النضالي، بعيدًا عن البلاغة والاستقطاب، وبعيدًا عن لعنة المفاوضات أيضًا، بما لا يضغط الفلسطينيين بمقدار ما يضغط الاحتلال.
الانتفاضة الثالثة حدثت فعلًا، ولن تقدم حبل النجاة لأحد
الذين خرجوا في رام الله والبيرة وبيت لحم ونابلس تجاوزوا بيانات القيادة الموحدة للانتفاضة، وتجاوزوا حالة الاستقطاب بين فتح وحماس. هم ليسوا بحاجة إلى تنظيم بقدر ما هم بحاجة إلى أداء سياسي يحصد الثمار الملقاة على الأرض، دون أن تجد من يلتقط لحظتها التاريخية الفارقة، وأول شروط ذلك الأداء هو قطع العلاقات كاملة مع إسرائيل، والاعتماد على الوعي الجديد الذي تشكّل وبات يعبّر عن نفسه بالمواجهة، رغم كل حملات كي الوعي التي اتبعها الاحتلال في هزيمة الانتفاضة الثانية، ورغم برامج "NGOS" لغسيل أدمغة الشباب الفلسطيني في السنوات الماضية.
تجليات اللحظة ليست في ما يجري، بل فيما سيحدث في المستقبل، في حال استمرارها، وهي ستستمر بكل تأكيد، وستفرز هذه الهبة قياداتها ونخبها، من هناك من أروقة فيسبوك، ومن أزقة القدس القديمة، ومن نقاط التماس. الانتفاضة الثالثة حدثت فعلًا، وهي لن تقدم حبل النجاة لأحد، بمقدار ما ستقدم إسقاطًا لما يجب أن يسقط داخل البيت الفلسطيني، أو في مواجهة العدو.