مبدعون يرون ان الشعر استطاع أن يرصد الثورات العربية ويتناغم مع أحداثها أكثر من الرواية والقصة، ربما لقدرته الفائقة على اقتناص اللحظة المفصلية في الواقع.
مجلة أفراسيا - وجيهة عبدالرحمن - انطلاقا من كل ذلك، كان على الأديب التحدث بلسان الناس، ولأن العصر الحالي هو عصر في غاية الأهمية بما تعانيه الشعوب من قهر وإذلال، فقد كان مطلوبا من الأديب التنقل بعدسته الروحية الدقيقة لنقل هذه الوقائع، ولكن السؤال الأهم هنا هو هل استطاع هذا الأديب صاحب الحواس الخمس الأكثر صدقا، في أن ينقل تلك الوقائع بأمانة؟
طرحنا هذا السؤال على ثلاثة من الأدباء والأديبات الذين لهم تجربتهم في عالم الأدب.
النظر بموضوعية
الباحثة هويدا صالح، أستاذة نقد الرواية في جامعة 6 أكتوبر بالقاهرة قالت: «اتسم الأدب العربي قبل ثورات “الربيع العربي” بالكشف والاستشراف، فقرأنا الكثير من الأعمال الإبداعية تتنبأ بما حدث في الربيع العربي، مثل رواية عزالدين شكري فشير “باب الخروج” ومثل شعر عماد قطري، ورواية “رفة فراشة” لمحمد سلماوي، وقد اقترب أكثر من قضايا الناس ومشاغلهم، وهذه المسافة بين الأديب والحاكم، منحت الفرصة للأديب أن يلتصق بهموم الناس بعيدا عن الضغط الذي يريد السياسي أن يضعه فيه، واستطاع الروائي العربي أن يقوم بالتحريض على رفض العنف والقهر والاستبداد السياسي. أما بعد انطلاق الثورات، فقد تبارى الأدباء والمثقفون إلى الكتابة عن الثورة؛ إما من خلال شهادات إبداعية أو كتب توثق ما حدث في الميادين وأماكن الاحتجاج، وهناك من كتب إبداعا، شعرا أو قصة أو رواية».
تضيف صالح: «قرأنا أعمالا مثل “7 أيام” لهشام الخشن، وكتاب “مئة خطوة من الثورة” لأحمد زغلول الشيطي، و ديوان “الميدان” للشاعر عبدالرحمن الأبنودي و”يوميات ثورة الفُل” لنادر الفرجاني، والثلاثية الشعرية “إنجيل الثورة وقرآنها” للشاعر حسن طلب، ومسرحية “ورد الجناين” لمحمد الغيطي، وديوان للشاعر حلمي سالم بعنوان “ارفع رأسك عاليا”. ومجموعة نصوص قصصية وردت في متوالية “بيوت تسكنها الأرواح” لكاتبة هذه السطور، وكذلك هناك أعمال بدأت مع الثورة مثل قصائد كريم عبدالسلام، أو اليوميات “لكل أرض ميلاد” التي كتبها الروائي إبراهيم عبدالمجيد».
وتؤكد الباحثة أن هناك أعمالا جيدة أيضا كُتبت بعد الثورة. وأن كل عمل له جماله وطزاجته ورغم الإخفاقات التي تواجهها ثورة 25 يناير في مصر إلا أن الأدب لامس القضايا الحقيقية التي يمرّ بها الواقع المصري، فالأديب يدرك أهمية أن يتخلى عن السلطة والأنظمة لصالح الفرد الإنسان ومعاناته.
الشعر يستطيع أن يرصد الثورات العربية ويتناغم مع أحداثها بدرجة أكبر من الرواية والقصة
فهي ترى أن للأدب دورا كبيرا في صنع ثورة 25، ولا يمكن إنكار أن ثورة “25 يناير” قد شكلت مرحلة فاصلة في الإبداع، فموجة الروايات التي تناولت حياة المهمشين في العشوائيات، والتي كانت تصف الواقع الذي تعيشـــه مصر، قامت بالتحريض على التغيير.
ويجب التعامل مع هذه الأعمال من الناحية المجتمعية، ودورها في التغيير والتحريض والتثوير. لكنها تعتبر في المقابل أن ما كُتب عن الثورة ليس كافيا. وهو أمر طبيعي، لأن هذه التجربة تحتاج إلى وقت كبير حتى تنضج، وهو ما يسمح بالنظر للتجربة بشكل حقيقي وموضوعي.
أما الكاتب والباحث الكردي حواس محمود، فلم يختلف كثيرا مع الدكتورة هويدا صالح حيث قال: «من المبكر القول إن الرواية العربية استطاعت أن تتمثل فنيا وسرديا بصورة مبلورة وناضجة وقائع الثورات العربية، كحدث شعبي تاريخي هائل وحاسم في بنية المجتمع العربي.
والرواية لا تزال تحت تأثير هذا الحدث المباشر الذي تتوالى حلقاته دون الوصول إلى نتائج ملموسة في مسار التطورات السياسية والاجتماعية، وبخاصة مع تحوّل الكثير من الثورات العربية من ثورات شعبية عارمة ذات طابع مجتمعي عام ضدّ الأنظمة المستبدة، إلى حركات ذات طابع تطرفي، والصراع مع القوى المعتدلة وبقايا الأنظمة السابقة، نذكر بعض الروايات التي صدرت وتحدثت عن الثورات العربية: “أيام زائدة” و”غناء البطريرك” لحسن داود، و”ربيع المطلقات” لنزار دندش، و”صيف الجراح” لمحمد الطعان، و”تقاطع النيران” للسورية سمر يزبك.
ستكتب بعد قليل
أما الشعر فقد استطاع بدرجة أكبر من الرواية والقصة أن يرصد الثورات العربية ويتناغم مع أحداثها، ربما لقدرته الفائقة على اقتناص اللحظة المفصلية في الواقع، ولعل أبرز الشعراء المصريين الذين تألقوا بالشعر في فضاء الثورات العربية الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدة “كأنك ما فيش” وهنالك شعراء شباب استطاعوا أيضا بقصائدهم الثورية تحريك وتحريض عاطفة الجماهير وحماستهم، وهي قصائد مكتنزة برؤى ثورية وقومية تبعث على الأمل في بعث حياة جديدة، من خلال التضحية والاستشهاد، نذكر من هؤلاء الشعراء هشام الجخ، يمان بكري، مصطفى حسان، ويحيى قدري.
الرواية لا تزال تحت تأثير الأحداث في الشارع العربي، التي تتوالى حلقاتها دون الوصول إلى نتائج ملموسة
الروائي عبدالعزيز بركة ساكن، لم يرقه السؤال، لأنه حتى الآن غير مؤمن بما يسمى “ربيع الثورات العربية” فقال: «قبل طرح السؤال في الأصل بهذا السياق الذي يقرّ مسبقا أن هنالك ما يطلق عليه ربيعا عربيا، يمكن أن يُستبق بسؤال على شاكلة: هل هنالك ربيع عربي فعلا؟ إذا كان أو لم يكن؟ ماذا تريد أن تحقق الرواية من أهدافها في رصد تلك الظاهرة وملامحها لم تُحدّد بعد؟ فكيف اكتمل الوعي بها لكي تتحول إلى عمل فني مكتمل عن واقع لم يكتمل بعد؟ وهل الرواية في حالة تتبع محموم لحالة الواقع أم أن ذلك كان محفزا فنيا غير طبيعي حرك الحاجة للتدوين السردي؟ رواية ما يحدث الآن على ما أظن ستكتب بعد قليل. وما كُتب الآن في تقديري هو جزء مما يحدث في أرض الواقع بالفعل، ويمكن تسميته الفعل الثقافي السردي الملازم للحراك الاجتماعي الذي قد يكون ربيعا عربيا أو ردّة وفقا لمآلاته».
نتوصّل في النهاية إلى خلاصة مفادها: أن الأدب يكون دقيقا أكثر في نقل الأحداث والوقائع ورصدها بعد نضج التجربة، وتوضّح معالم الحدث ومساراته، أما في خضمّها فيتحوّل الأدب إلى مجرّد عدسة تنقل صورة مبهمة المعالم، خاصة وأن هذه الثورات قد انحرفت عن سكتها بعض الشيء، إن صحّ التعبير.
الأديب ضمير الشعب ووجدانه، فهو الذي يتميّز عن غيره من الناس بقدرته على الرصد والتوثيق، والولوج إلى دواخل الإنسان، الإنسان بكل ماهيته وأينما كان، ينقل مشاهداته الحسية والشعورية والواقعية إلى الصفحات البيضاء، ويقدّمها إلى التاريخ للاحتفاظ بما اكتشفه، على أن التاريخ منصف وعادل لايعتريه أيّ تشويه، ولا يحاسبه أيّ محاسب على ما نقله، التاريخ أمين سرّ الحياة ونبض الإنسان الحقيقي.