فارس الشاشة محمود سعيد ساهمت موهبته وملامحه الشرقية القاسية ورخامة صوته الذي يمكن تمييزه بين آلاف الأصوات في رسم طريقه نحو النجومية.
مجلة أفراسيا - خالدا الذي مات قبل أربعة عشر قرنا، يموت من جديد اليوم، في رحيل الفنان الذي قدّمه على شاشة السينما، في أكبر الأفلام التي تناولت مقطعا من ظهور الإسلام وفتح مكة.
وربما كان من أروع الأفلام التي التصقت بذاكرة الناس، وعلى الأخصّ جيل السبعينات من القرن الماضي، فيلم “الرسالة” للمخرج السوري الحلبي مصطفى العقاد، وربما أكثر ما جعل ذلك الفيلم يُحفر في ذاكرتنا هو أداء الممثلين المبدعين فيه وعلى رأسهم الفنان محمود سعيد الذي أدى دور خالد بن الوليد ببراعة، والذي توفي مؤخرا لاحقا بكوكبة نجوم فيلم الرسالة.
خالد بن الوليد
لا شيء يطغى على دور محمود سعيد في دور خالد بن الوليد، رباطة جأشه، ثباته، لغته، سمرته، عناده، بل وحتى طيبته لحظة إعلان إسلامه بين يدي الرسول.
لم نكن، خلال طفولتنا، على علم وافٍ بخالد بن الوليد وشخصه لولا حضور ذلك الفيلم، وصار المشاهد كلما ذُكر خالد يستحضر في الذاكرة وجه محمود سعيد.
“غريب” هو الاسم الذي اشتهر به محمود سعيد بعد تأديته هذا الدور في العام 1970 في مسلسل “التائه” المقتبس عن الرواية الشهيرة “مرتفعات ويذرينغ” لإميلي برونتى، فصار الناس ينادونه بهذا الاسم جيلا كاملا من الزمن في مكان عرض المسلسل في المغرب العربي وحتى في لبنان التي عاش فيها معظم سنين حياته.
ولكن يبقى المسلسل البدوي الأكثر شهرة على الإطلاق في حياة محمود سعيد هو مسلسل “فارس ونجود” الذي شاركته فيه المطربة البدوية السمراء أيضا سميرة توفيق. وفي العام 1974 استمر عرضه لسنوات طويلة على معظم قنوات التلفزة العربية.
ما لفت النقاد والمشاهدين أولا في أداء محمود سعيد هو صوته الذي يمكن تمييزه بين آلاف الأصوات، إن كان باللهجة العامية، البدوية والمدنية، أم بالفصحى، وقد برع في الثلاثة إن صح التعبير، وهذا ما دفع بالكثير من المخرجين والمنتجين إلى التسابق على إشراكه في أكثر الأعمال التلفزيونية ثم السينمائية، حتى جاء العام 1976 حين قرر العقاد إخراج الفيلم التاريخي الملحمي “الرسالة” الذي يتناول سيرة النبي العربي محمد بن عبدالله، فلم يتوان مخرج الروائع لحظة عن اختيار محمود سعيد لأداء دور خالد بن الوليد، تلك الشخصية التي لم تنطبق على ممثل عربي أو غربي كما كانت مع سعيد، حتى بات الصحفيون والمشاهدون لاحقا يسخرون من جميع الممثلين الذين حاولوا تقليد دور خالد في الأعمال التلفزيونية كالممثل السوري باسم ياخور وغيره.
محمود سعيد وبرتقال يافا
شخصية خالد بن الوليد التي أداها محمود سعيد في فيلم الرسالة، مزجت صورة القائد العربي بصورة سعيد، حتى بات المشاهدون يسخرون من جميع الممثلين الذين حاولوا تقمصها بعده.
فلسطيني، من يافا مدينة البرتقال، ولد في العام1941، وعاش في لبنان، حيث جاءت به والدته، البيروتية الأصل من آل البني وهو في سن السابعة من العمر إلى مدينة صيدا، وكان ذلك خلال حرب فلسطين في العام1948، عاش طفولته في دار للأيتام الفلسطينيين بعد وفاة والدته، ثم تابع دراسته في المدارس التابعة لمنظمة الأونروا، بدأ مسيرته الفنية حين تقدم إلى مسابقة أجرتها اﻹذاعة اللبنانية للممثلين الشباب، حين نجح وعمل لفترة في البرامج والمسلسلات اﻹذاعية.
إلى أن جاءته الشهرة حين شارك في فيلم “صقر العرب” في العام 1968، لتتوالى أعماله بعد ذلك، ومن أبرزها المسلسل البدوي الشهير “فارس ونجود” والذي مثل فيه دور الشاب البدوي الأسمر “فارس” و”وادي الغزلان” و” العذاب”، و”السراب وغروب” العملان اللذان شارك فيهما زوجته هند أبي اللمع. وعن فلسطين قدّم المسلسل الرائع “وتعود القدس” إضافة إلى فيلم “فداك يا فلسطين”.
سينما ومسرح
مــن أبرز أعـماله السينمائية، إضافة إلى فيلم الرسالة، كانت أفلام “عنتر يغزو الصحراء”، و”غارو” و”أسير المحراب”، وأعمال كثيرة أخرى.
أما مسرحيا، فقد شارك في أعمال مثل “المهرّج” لمحمد الماغوط، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح و”موقعة عنجر” من إخراج نزار ميقاتي، و”موال الأرض”، ثم سافر إثر الحرب الأهلية في لبنان إلى اليونان حيث عاش 3 سنوات، انتقل بعدها إلى الأردن وأقام فيها قرابة 5 سنوات، كان خلالها جزءا من المشهد الفني الأردني، وفي العام 1982 أدّى بطولة مسلسل “المعتمد بن عباد” مع نضال الأشقر.
وفي سنة 1994 شارك في مسلسل “جواهر” البدوي من إخراج نجدة أنزور بجانب مازن الناطور ومنى واصف، ومرح جبر، وعبد الرحمن آل راشي.
ما يميز محمود سعيد هو أنه لم ينخرط في دراسة فنون التمثيل وإنما اعتمد على موهبته الخاصة وسليقته في الأداء، ساعدته في ذلك ملامحه الشرقية القاسية ورخامة صوته، ذلك الصوت الذي استُخدم أيضا في تمثيل شخصيات كرتونية للأطفال كما حصل مثلا في عمل “صراع الجبابرة”.
بالرغم من ابتعاده عن الأضواء خلال السنوات الأخيرة، أو بالأحرى ابتعاد الأضواء عنه، بقي اسم محمود سعيد يتردّد دوما، في ذاكرة كلّ من يستعيد العصر الذهبي للتلفزيون في العالم العربي.
ما إن قرر مصطفى العقاد العمل على إنجاز فيلم الرسالة الخالد حتى بدأ بالبحث عن ممثلي أدوار الشخصيات البارزة فيه، وحين توجه إلى بيروت التقى مع محمود سعيد في مكتبه، وكان لقاء شخصيا وديا لم يتخلله أي طرح للقيام بدور تمثيلي تجريبي كما هي عادة المخرجين، وإنما عبارة عن نظرة قريبة لذلك الرجل الذي قرر العقاد في النهاية إسناد دور سيف الله المسلول له، حيث اتصل به في اليوم التالي ليخبره بأن الاختيار وقع عليه دون غيـــره من ممثلي العرب، ويذكر محمود سعيد في لقاءاته اللاحقة في الصحف وقنوات التلفزة أن فرحته بالمشاركة وأداء دور خالد لم تضاهها مشاركته في جميع الأعمال التي قدمها في المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية، بل وكانت السبب الرئيس في نجاح مسيرته الفنية على الإطلاق.
ورغم الإمكانية الفذة للمخرج العقاد ودوره في تحريك شخصيات الفيلم، بنسختيه العربية والإنكليزية، مع عبدالله غيث وأنطوني كوين اللذين أدّيا دور حمزة عم النبي، ومع منى واصف وإيرين باباس اللتين مثلتا دور هند بنت عتبة، إلا أن محمود سعيد أسبغ على شخصية خالد صبغة مميزة قل نظيرها بين جميع من أدى دور ذلك الصحابي، فنذكر على سبيل المثال وقفته أمام كتيبة فرسان قريش وهو يراقب عن بعد مجريات غزوة أحد بنظر ثاقب، ثم التفافه حول الجبل وهجومه على جيش المسلمين بسيفه وهو يصك بأسنانه، إلى درجة أن من حضر ذلك الفيلم في صالات السينما أو أجهزة الفيديو المنزلي استثاره ذلك المشهد إلى حد كره ذلك الممثل المشرك، ثم المشهد التالي الذي يقوم فيه خالد باستفزاز بلال بن رباح، الذي قام بتمــثيل دوره الــمــمــثل اللــيبي علي أحمد سالم، في الحديبية وهو يهز الفرس من لجامها لتضرب بلالا على صدره.
وليس أقسى من مشهد دخوله مسجد الرسول في المدينة ليعلن إسلامه، حيث ينفر من حوله المسلمون لقاء ما اقترفه في الحادثتين السابقتين، لينتهي المشهد بإسلامه وإطلاق لقب سيف الله المسلول الذي يقود أكبر الفرق في دخول مكة ساعة الفتح.
غريب هو الاسم الذي اشتهر به محمود سعيد بين الناس، وهو الذي عاش غريبا عن وطنه في قلوب الناس.
رحيل فارس
بعد صراع مع المرض الذي لم يكن على علم به إلى حين دخوله المشفى، سرطان الرئة، وعن عمر ناهز الثلاثة والسبعين عاما توفي فارس في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، ليسدل ستار سنة 2014 بحادثة وفاته، وووري جسده في مقبرة الشهداء الفلسطينيين في منطقة شاتيلا البيروتية.
وكم تمنى محمود سعيد أن يموت شهيدا في دفاعه عن أرضه فلسطين، خاصة وأن أشقاءه كانوا من أوائل المحاربين في صفوف جيش التحرير، ولكن كما كان خالد بن الوليد يتمنى ذلك إلا أنه توفي فوق فراشه، فتقاسم الاثنان الدور ذاته حتى في الوفاة.