الأدب الفلسطيني: من موضوع وحيد إلى تنوّع الحياة

طباعة
تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - راسم المدهون - في التجربة الثقافية الفلسطينية رهان شبه دائم على توظيف الأدب والإبداع عمومًا في سياقات وطنية ذات طابع ومضمون سياسيين ينتميان في صورة مباشرة للأهداف الوطنية الفلسطينية العامة، وهي مسألة تظل في تقديري مفهومة وطبيعية بالنظر إلى حجم حضور القضية الوطنية في وجدان الفلسطينيين ووعيهم طيلة عقود القرن الفائت، وما تلاه من سنوات العقود الثلاثة التي أتت بعده.


في ذاكرتي نكتة أبدعها الأخوة الجزائريون عن الفلسطينيين تقول إن فلسطينيًا دخل مقهى جزائريًا واختار طاولة جلس على أحد مقاعدها، وحين سأله النادل ماذا يطلب قال "أريد فنجان قهوة وواحدًا أناقشه في السياسة". هي نكتة رغم مجازيتها، وبسببها، تحمل دلالة تشير إلى كثافة حضور السياسة في وعي الفلسطينيين خلال المراحل كلها، إذ توغلت أعمالهم الإبداعية في شجون سياسية لا تحصى، وإن كانت كلها تتناول أحداثًا لها علاقة ما، مباشرة أو غير مباشرة، بفلسطين، وقضيتها الوطنية، وكفاح شعبها: من كمال ناصر، وسميرة عزام، وغسان كنفاني، مرورًا بنبيل خوري وإبداعه حول القدس، وتجربة معين بسيسو، ويوسف الخطيب، الشعرية، ووصولًا إلى جيل الستينيات من الشعراء والساردين، ومن أبرزهم محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، ووليد سيف، وعز الدين المناصرة، ومحمد القيسي، وأحمد دحبور، ومريد البرغوثي، ومحمود شقير، وزكريا شاهين , ومن جاء بعدهم من شعراء وساردين ذهبوا إلى ينبوع إبداعهم الأهم، وهو القضية الوطنية، وراحوا ينهلون منه ليقدموا أعمالهم الأدبية المختلفة.


تلك مراحل قدمت كثيرًا، وكان لها ما لها، وعليها ما عليها، لكنها، وبالترافق مع التطورات اللاحقة في الأدب والحياة معًا، أنتجت وعيًا ثقافيًا وأدبيًا مختلفًا منذ بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. هنا لاحظنا اختلافًا واضحًا في الرؤى الإبداعية وما يحيط بها ويؤثر فيها من زوايا نظر أخذت في مقاربة حقائق اجتماعية وإنسانية أكثر مقاربة لشجن الإنسان ذاته، الذي لم يعد المبدعون ينظرون له باعتباره صورة قضيته الوطنية ورمزها وممثلها كما كانت حاله سابقًا، بل هو إنسان من لحم ودم، ويحمل في داخله تأثراته الإيجابية والسلبية بالواقع الذي يعيش فيه ويتأثر بقضايا العصر وهمومه كما بأفراحه وأتراحه، ولكنه أكثر من ذلك يمتلك ما يشغله شخصيًا وفرديًا، ويدفعه ــ بدرجات متفاوتة ــ مقاربات إبداعية جديدة. هي تجارب أدبية لم تفارق صلتها بوطنها الفلسطيني وقضيته بقدر انحيازها وانحياز مبدعيها لرؤية أخرى تذهب نحو استقصاء الإنساني في تلك القضية الوطنية وبالذات أفقها التراجيدي، المفتوح على حياة البشر الفلسطينيين وعذاباتهم اليومية والتاريخية فقرأنا أعمالًا إبداعية أخذت موضوعاتها من ضنك العيش والمعاناة الاجتماعية، كما من حكايات الحب الفردي أيضًا.


تلك الرؤى الجديدة أخذت الشعر الفلسطيني أولًا إلى التبدل، ولكنها لم تتوقف عند الشعر وحده، فهي تزامنت مع دخولنا "عصر الرواية"، التي نقلتنا ونقلت الأدب الروائي الفلسطيني من مرحلة "الروائيين الثلاثة" جبرا، وغسان كنفاني وإميل حبيبي، إلى مرحلة "انهمر" فيها الروائيون الفلسطينيون من كتاب الأجيال الجديدة، ومن بينهم من حققوا روايات متميزة على المستويين الفني والفكري، روايات تناولت صور الفلسطينيين في مآلات عيشهم الجديدة التي شكلت وعيهم وتأثراتهم بمحيطهم العربي والعالمي على حد سواء. هنا أيضًا صار الإبداع الأدبي (شعرًا وسردًا) مفتوحًا على تجاوز المحرم وحتى غير المألوف أو المعتاد، وذهب أبعد من ذلك إلى براعة التعبير والاحتكام للجماليات الفنية، بما هي قيم تمنح الإبداع رونق حضوره وعناصر قوته، بل وعناصر وجوده وبقائه على مدار السنين وتعاقبها. الأمر هنا لا يتعلق بجوائز أدبية نالها مبدعون فلسطينيون (على أهمية ذلك)، ولكن أيضًا وأساسًا بمراكمة إرث إبداعي بات سمة عامة لارتفاع مستوى الأدب الفلسطيني عمومًا، ووصوله مستويات فنية غير مسبوقة أعتقد أن لها الفضل في فرز الأدب الفلسطيني وتخليصه من الأعشاب الضارة التي تسللت إليه من عهود الترجمة السيئة لمفهوم الالتزام بمعناه الأيديولوجي القديم. هنا نشير إلى أن أبرز ما حققه الإبداع الفلسطيني الجديد هو تخلصه من هيمنة الأيديولوجيا عمومًا، واقترابه أكثر فأكثر من الحياة ذاتها.


مهم في هذا العجالة الإشارة لإبداعات الكاتبات والشاعرات الفلسطينيات، وهن قد حققن تجاوزًا لدورهن السابق، وحققن في الوقت نفسه أعمالًا هامة تقف ندًا لإبداعات الأدباء الرجال، بل وتتفوق عليها في أحيان كثيرة، وذلك أصبح ممكنًا أكثر بفضل ارتفاع سوية التعبير عمومًا، وبلوغه درجات أكبر وأعلى من النضج، فنساء الرواية والشعر من الفلسطينيات في الوطن والشتات نجحن في تقديم أنفسهن على نحو متميز يحمل كثيرًا من الجماليات الفنية، وواكبن تطورات الحياة الفلسطينية ذاتها من خلال التعبير عن موضوعات لم تكن مطروقة من قبل.


هي دورة الحياة ذاتها، وهي دورة لا بد من الاعتراف أنها لم تشهد حركة نقدية حقيقية تواكبها وتعيد تقييمها وتنجح في تقديم استخلاصات باستثناءات قليلة، بل نادرة، رأينا أبرزها ما قدمه ويقدمه الدكتور فيصل دراج من قراءات تعكس انتباهاتها العميقة للأدب الفلسطيني، خصوصًا في الرواية.


نقول ذلك ويحدونا أمل بأن تتواصل هذه "الصحوة" الإبداعية الكبرى في الوطن الفلسطيني، كما في بلدان الشتات، كي تقدم لنا مزيدًا من تعبيرات الإبداع باختلاف أجناسه وفنونه بما هو إحياء للحياة ذاتها، وبما هو استعادة حقيقية وفاعلة لدور تائه، أو كان كذلك لعقود مضت من حياتنا، كأفراد وكبلاد تعيش مأساة العصر الفريدة.