من توثيق الخراب إلى تفكيكه: حين يفضح الأدب الفلسطيني الخراب البنيوي

طباعة
تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


نحو ثورة على الذات والاستعمار في زمن الإبادة!
حين يستدعي الواقع الفلسطيني في غزة تغيير بوصلة الكتابة
افراسيانت - غانية ملحيس - قلة من الكتّاب ينجحون في استدراجي طوعا إلى تغيير أولوياتي في الكتابة،

وتجاوز حرصي على استكمال التفكيك البنيوي لنظام الحداثة المادية الغربي العنصري المهيمن، وللنظام الصهيوني في فلسطين الذي يشكل المركز الأخطر لهذا النظام في جنوب الكرة الأرضية، ويضطلع بمهمة إدامة هيمنته هناك، بما يحافظ على سيطرته العالمية. ويمتد هذا التفكيك البنيوي بالتوازي إلى الذات الفلسطينية والعربية، وإلى القوى الرئيسية في جنوب العالم، لتوفير الإطار المعرفي الضروري الذي يتيح لنا بلورة رؤية نهضوية ومشروع تحرري بديل. إذ إن قضية تحرير فلسطين تتجاوز حدود الجغرافيا الفلسطينية والعربية، وتطال تحرر الجنوب العالمي، بل وتمتد لتشمل قضية التحرر الإنساني الشامل.


غير أن عادل الأسطة، بتفرده في متابعة الوقائع اليومية لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ينجح، على الدوام، في استدراجي إلى إعادة ترتيب أولوياتي، إما بكتابة مقالات تستكمل ما يذهب إليه في نصوصه، أو بالاكتفاء بالتعقيب على يومياته/خربشاته/ المهمة التي تنقلنا مباشرة إلى واقع غزة المعيش في زمن الإبادة، وإلى تفاعلات الكتاب والصحفيين والنشطاء المحليين معه، فضلا عن رصده للتفاعلات والسلوكيات الفلسطينية والعربية المريبة خارج القطاع.


غزة… ذروة خراب ممتد لا “حدث طارئ”


في زمن تغتال فيه الحقيقة بالصمت، يغدو الأدب سجلا أخلاقيا لشعب يباد. وهذا ما يفعله عادل الأسطة، الذي يرصد المشهد من خارج قطاع غزة ويعيد تقديمه في كتاباته اليومية التي يسميها “خربشات”، وقد بلغ عددها حتى الأمس 666 مدونة.


وقد تضمنت مدونة الأمس صرخة مدوية في وجه المفكرين والكتاب والمثقفين الفلسطينيين الذين يلتزمون الصمت، وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن تحمل المدونة رقم 666 هذه الصرخة، بما يحمله الرقم في الثقافة الغربية من دلالة على الشر، وكأن عادل الأسطة يقول إن الصمت على الإبادة هو شكل من أشكال التحالف مع الشيطان.


عادل الأسطة، كما يبدو، ليس هو الأديب الفلسطيني الوحيد من خارج قطاع غزة الذي يواظب على رصد مجريات الحرب يوميا، معتمدا على تدوينات الغزيين الشخصية عبر وسائل التواصل، وعلى اتصالاته المباشرة مع أصدقاء في القطاع.


يلتقط منها ما يستطيع، ويوردها في يومياته التي تشبه مقياسا حراريا لجسد فلسطيني محموم، يصارع البقاء منذ أكثر من ثمانية عقود، تتوارى فيها الجمرات أحيانا تحت الرماد دون أن تنطفئ، وأعيد إشعال لهيبها في مركزها الغزي منذ نحو عامين، دون أن ينكسر الغزيون أو يتنازلوا عن حقهم في الحياة.


ما يميز أدب عادل في روايته للكارثة الفلسطينية الممتدة، أنه يصل الحاضر بالماضي ويمنع الانقطاع بينهما، من خلال استحضار روايات من رحلوا عن عالمنا ومن بقوا يتقلبون على جمر الذكريات، ويصلها بالوقائع اليومية التي يدونها الغزيون الذين يكابدون العيش في المحرقة الفلسطينية المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023.


بهذا، ينفرد عن سائر الأدباء والنقاد الفلسطينيين في إصراره على وضع المرآة العاكسة أمام أعيننا جميعا، معززا ما نراه من فجائع وانهيارات وقبح بشهادات الشهود من قطاع غزة، وبشهادته الحية مما عايشه في مخيم عسكر.


يضعنا أمام الحقيقة بلا تزويق، ويوصد أبواب الهروب أمام المتواطئين بالصمت، وبالمناصب والامتيازات، والمتذاكين بالتحليل. ويخاطب الجميع: القادة، والنخب الفكرية، والسياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والقانونية، والإعلامية، ليسألهم: ها قد علمتم، فماذا أنتم فاعلون؟


حين يتحول الأدب إلى مرآة للخراب البنيوي


كثر من الأدباء والشعراء والكتاب والمدونين الغزيين، أمثال رياض عواد، وعاهد حلس، وشجاع الصفدي، وأحمد أبو ارتيمة، وأكرم الصوراني، ومحمد الذهبي، ومئات غيرهم، يدونون اليوميات المفجعة لحياة الناس في غزة، لا بوصفها صورا طارئة، بل كمشهد تتويجي لثمانية عقود من الانهيار البطيء.


في مقاله الأشد إيلاما، «الخراب الأسري»، لا يكتفي عادل الأسطة بنقل مشاهد العنف المنزلي، والفقر، والانهيار النفسي، بل يربطها بما كتبه غسان كنفاني، وسميرة عزام، وسحر خليفة، وغيرهم من أبناء النكبة، ليقول لنا بوضوح: لقد كنا نرى هذا منذ زمن طويل، ولم نغير شيئا.


شهادته تتجاوز التوثيق، إنها إدانة صارخة لكل من شارك، بصمته أو تقصيره أو تورطه، في تحويل النكبة إلى نمط حياة. فهو لا يرصد فقط ما يحدث، بل يضعه في سياقه التاريخي والأدبي والاجتماعي، كاشفا عن استمرارية العطب البنيوي الذي ينهش البنية الفلسطينية منذ عقود، والذي يتجلى اليوم في صور أكثر قسوة تحت وقع الإبادة.


من سميرة عزام وغسان كنفاني إلى محمد الذهبي: الأدب كوثيقة اجتماعية


لم يكن الأدب الفلسطيني يوما عاجزا عن قول الحقيقة. لقد واجه الخراب مبكرا، وسجل الشهادات، وفضح العطب. لكن المعضلة لم تكن في الأدب، بل فيمن قرأه.


فقد حولت النخب السياسية والثقافية هذا الأدب إلى أرشيف رمزي، يزين به خطاب الهوية، ويحتفي به كتراث، بدل أن يقرأ كنداء استغاثة وكشف حساب. وهكذا، غابت الاستجابة وتراكم الخراب، فأدى الأدب وظيفته، بينما فشلت النخب في أداء دورها: تحويل الوعي إلى فعل، والمرآة إلى بوابة عبور.


في متن مقاله، يوثق الأسطة ما يسرده ناشطون غزيون: رجل يضرب زوجته لأنه لا يستطيع إطعام أطفاله، وآخر يطلقها علنا في الشارع، وسيدة تغرق في الاكتئاب وتفقد تواصلها مع أطفالها.


هذه ليست مجرد “يوميات حرب” عابرة، بل ارتدادات متواصلة لزلزال لم يتوقف منذ النكبة، وصدى بنيوي لانهيارات متراكمة في منظومة القيم والعلاقات والبنى الاجتماعية التي تهالكت تحت وطأة اللجوء والقمع والخذلان والعجز.


هنا، يستدعي عادل الأسطة شخصيات أدبية سابقة:


•  فيّاض الحاج علي في قصة سميرة عزام.


• الأب الغائب والابن المستنزف في «رجال في الشمس».


•  زكريا المتنكر لأبسط روابط المسؤولية في «ما تبقى لكم».


• وأم سعد في رواية غسان كنفاني.


ويضيف: لقد رأيت ذلك بعيني، في طفولتي في مخيم عسكر. وبهذا، يحول الأدب من ذاكرة إبداعية إلى وثيقة اجتماعية واقتصادية وسياسية، تفضح استمرارية النكبة، ليس فقط عبر الجرائم الصهيونية، بل أيضا عبر البنى المتآكلة داخل المجتمع الفلسطيني نفسه.


فهذا العطب لم يبق محصورا في البدايات، بل تجدد في كل محطة، من أوسلو إلى الانقسام، ومن التمثيل المأزوم إلى مقاومة بلا أفق سياسي.


النكبة… من الطرد إلى الانقسام إلى الإبادة؟


منذ عام 1948، لم تتوقف النكبة، بل تبدلت أشكالها وتغيرت أدواتها، لتأخذ مسارًا متصاعدا من المأساة:


• من مجازر الإبادة في دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم…


• إلى الطرد والاقتلاع القسري من الأرض.


• إلى حياة اللجوء والمخيم وما رافقها من حرمان وتهميش.


•إلى إخفاقات المشروع الوطني الفلسطيني في مختلف مراحله.


• إلى الانقسام السياسي الذي عمق الجراح.


• وصولا إلى الإبادة الجارية في قطاع غزة ومخيمات الضفة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023.


لكن الأخطر من استمرار النكبة، أن هذا المسار لم يقابله مشروع فلسطيني تحرري جذري قادر على كسر هذه الحلقة.


بل اقتصرت الاستجابات على محاولات ترقيع وانتظار، وعلى حلول فوقية تجاهلت البنية العميقة للعطب، سواء في البنية الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية. وهكذا، تراكم الخراب وتعمق، ليعيد إنتاج ذاته في كل محطة تاريخية.


عطب النخب الفلسطينية: قرن من العجز الانتقائي


لم تكن النكبة نتيجة الاحتلال وحده، بل أيضا نتيجة عجز النخبة الوطنية عن إنتاج مشروع تحرر شامل.


فعلى امتداد قرن من التجربة السياسية الفلسطينية، تكشف الوقائع أن القوى والتنظيمات الفلسطينية:


• اكتفت بالتشخيص الانتقائي: ندين الاحتلال، لكن نتجاهل العطب الداخلي.


•مارست نضالًا مجزأً: ثورات عفوية سرعان ما تنطفئ جذوتها، وإضراب احتجاجي يستمر ثلاث سنوات، من دون فهم واع لطبيعة الصراع الوجودي مع المشروع الاستعماري الصهيوني العنصري الإحلالي.


منذ اللحظة الأولى، بدا أن هناك انفصاما حادا بين الريف الذي حمل عبء المقاومة، وبين المدن التي آثرت مهادنة الاستعمار البريطاني تحت ذريعة الواقعية السياسية.


فبينما كانت دماء الفلاحين تسفك دفاعا عن الأرض، كان “زعماء المدن” من المتعلمين والمثقفين والوجهاء يفاوضون سلطة الانتداب بحثا عن الحد الأدنى من المكاسب، أو سعيا للاعتراف بدورهم كـ” نخبة مسؤولة”.


لم يكن هذا الانقسام جغرافيا أو طبقيا فحسب، بل كان تعبيرا عن شرخ عميق في تصور معنى التحرر: بين من رآه ضرورة وجودية، ومن اعتبره مخاطرة غير محسوبة.


ومع كل انتفاضة شعبية عارمة تحمل أفقا بتغيير يوقف تمدد الاحتلال والاستيطان، كانت القيادة المأزومة والمعزولة والمحاصرة في المنافي البعيدة تلتقط الفرصة لإثبات جاهزيتها للمساومة، بشروط أكثر ليونة من شروط المنتفضين على الأرض، وعرض استعدادها لاستثمار رصيدها النضالي وشرعية تمثيلها الرسمي – فلسطينيا وعربيا ودوليا – في مقايضة حل مأزقها بإخراج الكيان الصهيوني من مأزقه وحرجه الدولي.


هذا ما جرى بعد انتفاضة الحجارة، حين هرعت القيادة إلى طاولة أوسلو، لا لتحصد إنجاز الانتفاضة، بل لتفاوض باسمها على فتات “الحل المرحلي”، مقايضة دماء الشهداء باعتراف هش وكيان منزوع السيادة. 


وتكرر الأمر بعد انتفاضة الأقصى عبر تغيير النظام السياسي الفلسطيني المقاوم واستبداله بآخر مساوم.


والنتيجة: سلطة هنا، مقاومة هناك، خطاب دون فعل، ومشروع بلا جماهير.


لقد فشلت النخبة في بناء مؤسسات متجذرة شعبيا وديمقراطية تمثيلية، بل وأجهضت ما بني منها. همشت العقل النقدي المستقل لصالح الولاء والطاعة التنظيمية، سكتت عن العنف الاجتماعي، وعمقت التمييز الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني، وتخلت عن اللاجئين والشتات، مختزلة الوطن في حدود “الحل المرحلي”.


وهكذا، تحولت إلى نخبة تدير الانهيار بدل أن تواجهه.


وما يمارس حاليا من ضغوط فلسطينية وعربية ودولية عبر تجريم المقاومة، وتحريم الفعل المقاوم، والقبول بالامتثال الكامل للشروط الإسرائيلية والأمريكية والغربية لقاء اعتراف دولي مؤجل ومشروط ومعلق بدولة فلسطينية مجتزأة ومجزأة ومنزوعة القدرة والسيادة، يفتح الباب أمام استكمال التطبيع العربي والإسلامي الشامل، ويتوج الكيان الصهيوني قائدا أُحدًا على عموم المنطقة.


لا تحرر بدون ثورة على الذات: نحو مشروع وطني تحرري شامل


إذا كانت مقالة عادل الأسطة تعري الواقع الفلسطيني بجرأة، فإن الرد الأخلاقي والفكري والسياسي عليها لا يكون بالتبرئة أو الاستكانة، بل بإعلان الحاجة إلى ثورة فلسطينية مزدوجة:


•ثورة للتحرر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني العنصري.


•وثورة للتحرر من البنى الفلسطينية المعطوبة التي أعادت إنتاج التبعية والفساد والعجز.


هذه الثورة لا يمكن أن تكون “مؤسسية” أو “انتخابية” فقط، بل يجب أن تكون نهضوية شاملة، تعيد تعريف النضال بأنه تحرر الإنسان والمجتمع معا، وتستعيد فلسطين كأفق لا كسلطة، وتدمج بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مشروع واحد متكامل.


إنها ثورة تنطلق من المخيم والقرية والمدينة والشارع، ليس من الفندق والمؤتمر.


ثورة تعيد الاعتبار للمبادرة الشعبية، وتكسر احتكار القرار بيد النخب المعزولة، وتربط بين معركة التحرر الوطني ومعركة العدالة الاجتماعية، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة لا ينفصلان.


الأدب فضح الخراب… من يجرؤ على البناء؟


لقد أنجز الأدب وظيفته، لكنه لم يقرأ بوصفه دعوة للفعل، بل بوصفه زخرفة للهوية. حوّلت النخب الأدب إلى أرشيف، بدل أن تستجيب لما يفضحه من عطب وخراب.


لقد قام بعض الأدباء الفلسطينيين بواجبهم: صرخوا، وكتبوا، وواجهوا، وسجلوا التفاصيل، وفضحوا الخراب. لكن الأدب وحده لا يبني مشروعا سياسيا، ولا يوقف الإبادة، ولا ينتج قوة تغيير. وظيفته أن يكشف، وأن يدق ناقوس الخطر.


الكرة الآن في ملعب المفكر والمثقف والسياسي، والاقتصادي، والحقوقي، وكل من قرأ مقال الأسطة وأشاح وجهه عنه. فمن لم يسمع صرخة الأدب، سيسمع أنين الانفجار القادم. ومن تجاهل صدى الخراب، سيصحو على ركام لا يبقي ولا يذر.


لم يعد الأدب مرآة فقط، بل جرس إنذار أخير. النكبة لا تعيد إنتاج ذاتها فحسب، بل تنتقم من صمتنا. والسؤال لم يعد: من كتب؟ بل: من سمع؟ ومن سيفعل؟


الثورة المزدوجة ليست وهما ولا شعارا، بل ضرورة وجودية تبدأ:


حين نكف عن الكذب على أنفسنا،


وحين ندرك أن التحرر ليس وعدا خارجيا، بل سؤال داخليا أولا.


ومن لم يبدأ هذه الثورة في ذاته، فلن يشهدها في تاريخه، ومن لم يتورّع أمام الكارثة، ستورثه الكارثة لأطفاله ولتاريخه كعار لا يُغتفر.