افراسيانت - الإضراب عن الطعام الذي يخوضه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال ، ليس ممارسة نضالية جديدة. بل ظل واحداً من الأشكال النضالية التي يخوضونها منذ قام الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية تبلور الشكل النضالي الفلسطيني في مواجهة سياسة الاعتقال العدوانية التي اختطتها وكرستها دولة الاحتلال وقواها الأمنية منذ الأيام الأولى لقيامها كطريق أساسي من طرق قمع الشعب الفلسطيني والسيطرة عليه وقمع أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية لوجودها. في مواجهة هذا الطريق الاعتقالي الذي اتسع كثيرا ليشمل كل فئات الشعب الفلسطيني رجالا ونساء وكل المستويات العمرية لا ترحم قاصراً ولا طفلاً، بلور المعتقلون حركة أسيرة منظمة شكلت رافداً أساسياً من روافد النضال الوطني الفلسطيني بشكله العام، وتحولت إلى واحدة من أهم أشكال الصمود والمقاومة الوطنيين.
بقدر ما كانت سياسة الاحتلال الاعتقالية منظمة واستباقية وبعيدة تماماً عن العفوية، فإن الحركة الأسيرة الفلسطينية نجحت في التبلور إلى حركة على درجة عالية من التنظيم تمتد في كل السجون والمعتقلات وتتجاوز الانتماء التنظيمي المتعدد إلى الأولوية المطلقة للوطني على كل ما عداه. وهذا ما مكنها من الاستمرار في لعب دورها من وراء القضبان في النضال الوطني بشكل عام، وبشكل مبادر وطليعي في كثير من المفاصل النضالية الوطنية. وهذا ما مكنها أيضاً، من انتزاع الكثير من الحقوق التي تفرضها القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية والتي كانت دولة الاحتلال تتنكر لها وتحرم الأسرى الفلسطينيين منها.
نضال الحركة الأسيرة لم يكن بدون ثمن دفعه شهداء عديدون سقطوا ومناضلون اعطبوا ومن خلال عقوبات استثنائية في قسوتها وفاشيتها فرضت على مناضليها، تحملوها بشجاعة وصبر واقتدار برغم ما تركته في أرواحهم وأجسادهم من آثار.
الإضراب عن الطعام ظل واحدا من الأشكال الأساسية، وربما الشكل الأساسي، في نضال الحركة الأسيرة. وكانت، وما تزال، للإضراب أشكال متعددة: من العام الذي يشمل كل السجون، إلى المحدود بسجون بعينها، إلى الإضراب الفردي، إلى الإضراب التضامني مع المضرب الفردي...
وكانت ولا تزال لكل إضراب أهدافه ومطالبه المحددة: من حق كل أسير بفرشة ينام عليها، إلى الحق بالفورة ومدتها، إلى الحق بالزيارة، إلى الحق بالانتساب إلى المدارس والجامعات، إلى الحق بالإشراف على الطعام وطهيه، إلى الحق باختيار ممثلين عنه في العلاقة مع إدارات السجون إلى... إلى..
حركة الإضراب الحالية على علاقة مباشرة مع إجراء «الاعتقال الإداري» الذي ظلت دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية تمارسه على أوسع نطاق بدون تحديدات او قواعد او قيود. لقد ورثت دولة الاحتلال إجراء الاعتقال الإداري عن الاحتلال البريطاني، واستمرت في تطبيقه دون ان تشرعنه وتدخله في نظامها القضائي والاعتقالي، ما سمح لها بحرية حركة وتعامل مع المعتقلين لا حدود لها ولا قيود عليها ولا التزامات مهما كان نوعها.
حسب هذا الإجراء يمكن ان يستمر تجديد اعتقال مناضل فلسطيني لمرات عديدة قد تصل بمجموعها إلى سنوات دون تهمة محددة ودون محاكمة أو حكم. وقد حصل ذلك فعلا لكثير من المناضلين.
في الأشهر الأخيرة فقط أصدر الكنيست «الإسرائيلي» قراراً شرعن فيه الاعتقال الإداري، دون أن ينتقص، في الجوهر، من مساوئ وفاشية الإجراء، أو من حرية الحركة للأجهزة الأمنية والاعتقالية. القرار جاء أقرب إلى الشكلية لمراعاة الاحتجاجات والمطالب الدولية.
السبب المباشر لحصول الإضراب هو الإجراء التعسفي الفاشي الذي اتخذته دولة الاحتلال ضد الاسرى، ومرة جديدة أخرى من باب الاعتقال الإداري. الإجراء لا يمكن تصور مدى عدوانيته وجنونه حتى بأعتى القوانين الفاشية التي شهدها تاريخ البشرية. فكيف وبأي عقل أو منطق وبأية حجة ومبرر يمكن تصور وفهم قيام سلطات الاحتلال بإعادة اعتقال اسرى محررين «اعتقالا إدارياً» ودون تهمة محددة أو أمر اعتقال قضائي لاسير في اللحظة التي يجهز نفسه لمغادرة السجن بعد أن أنهى محكومية استمرت اعواما تنفيذاً لحكم قضائي ظالم، بتهمة تتعلق بانتمائه إلى منظمات نضالية فلسطينية.
ليس هناك ما يدعو إلى الشك بأن إلاضراب الكايد سيصل إلى النتيجة المرجوة والمحقة. كل الإضرابات الشبيهة السابقة حققت مطلبها وسقطت عنجهية وصلف المحتل أمام إصرار أبطال الأمعاء الخاوية وصلابة تمسكهم بمطالبهم المحقة واستعدادهم لمواجهة الموت لتحقيق تلك المطالب.
السنوات القليلة الماضية قدمت أكثر من دليل حسي وواقعي على هذا القول، حين نجح أبطال أضربوا عن الطعام وأشرفوا على الموت في تحقيق مطالبهم وبعضهم نال حريته الفورية. يؤكد عدم الشك بنجاح الإضراب انه يحظى بحمولة عالية من العدالة الإنسانية، مقابل حمولة عالية من الصلف والفاشية «الإسرائيلية»، وهو ما يمكن أن يرفع كثيراً من حملات التضامن والإسناد له على المستوى الوطني وهذا ما يحصل فعلاً على شكل فعاليات جماهيرية كثيرة، وعلى المستوى الإقليمي والدولي أيضاً.
ممارسات دولة الاحتلال القمعية والاعتقالية بالذات ليست مقطوعة عن مقدمات تضرب عميقا في الكيان الصهيوني منذ تأسيسه.
إنها تقع في صلب المنهج العام لدولة الاحتلال في تعاملها مع الشعب الفلسطيني وتتناغم مع تعبيراته المختلفة وتفاصيله. وهو المنهج الذي يقوم على تطفيش الشعب الفلسطيني من أرضه وإخراجه منها، وإيصاله إلى اليأس من إمكانية أن يحقق له نضاله بكافة أشكاله أياً من مطالبه، وليصل إلى القناعة انه إنما يدق رأسه بالحائط بلا نتيجة.
وهذه كانت نصيحة احد المؤسسين الأكثر يمينية لدولة الكيان الصهيوني «جابوتنسكي». ولا تزال دولة الاحتلال بكل مؤسساتها وأجهزتها والأغلبية الساحقة في مجتمعها وقواها السياسية تلتزم هذه النصيحة. ولا يزال الهدف المركزي والنهائي لهم هو السيطرة المطلقة على كل أرض فلسطين وطرد كل أهلها وسكانها الأصليين منها، أو تطويع من يبقى منهم خانعين في دولة الاحتلال.