افراسيانت - نجوى ضاهر - بعيدًا عن العبارات "السوبرمانية" أو الحديث عن البطولات الخارقة، لا يمكن لمن يملك قلبًا بين ضلوعه إلّا أن ينزف حزنًا لا تسوّلًا ولا استجداءً، ويتمزق لاعنًا في سرّه وعلانيته قمة شعوره بالقهر غير المستجد على كل من تسبب باعتقال الطفولة وترويعها. وعلت جرعة الوجع مع مشاهدة تفاصيل شريط الفيديو المسرب من محاكمة الطفل أحمد مناصرة أمس، أمام زمرة محققين صهاينة جبناء لم يتركوا وسيلة تكتيكية في أساليب التحقيق إلا واستخدموها، في سياق أهدافهم الدنيئة التي تثبت براءتهم وتدين الأطفال من خلال تضييق الخناق عليهم عبر اللعب على كل الأوتار الممكنة لطفل يدخل أول مرة حجرة العتمة، وكل هذا التجنيد المتعمد للحصول على إعتراف من أحمد الذي كان طوال المحاكمة يجسد المسيح الفلسطيني بملامحه المرئية فقط للأحرار.
ومع التعمق بكل كلمة قالها أحمد، يكبر التأكيد بأننا أمام جيل قد ترهبه القسوة، وهذا نتاج طبيعي لطفل لا يتجاوز الثالثة عشرة من قهر المحتل الذي يراه كل يوم، ولكنه لن يكون ولا يمكن أن يقدم صك إعتراف بهذه السهولة رغم كل الضغوطات المحيطة للنطق بحكم الإعدام مرتين على إبن عمه الشهيد حسن مناصرة وعائلته، فالدم عند الأحرار رغم عمرهم الصغير لا يمكن أن يتحول إلى ماء لأنهم يمقتون ببراءة لعبة الكبار. ولهذا، ولأسباب تتفاعل سرًا في القلوب اليانعة التي تربت في أجواء مختلفة، ستبقى كلمات أحمد ونحن نعيدها للمرة الألف كالنقش في الذاكرة مهيمنة على حياتنا البليدة حين تغيب الذاكرة عمدًا، خوفًا، لا يهم، وحين تكون النتيجة وهنا الأهم "بعرفش" مختصرة بكلمة إنتشرت وكبرت في شغاف الروح، مع رديفتها "مش متذكر" التي ربما حولها كثيرون إلى هاشتاغ في الزمن الرقمي كما العادة كزميلتها "بهمش" بشكل مكرر لا يخرج عن إطار اللحظة الإنفعالية، وتصبح كل الإختزال للصراع حين تفسد بتكرارها التنكيتي لا الساخر من العدو.
وتبقى الحقيقة المحورية أن تأثير كلمات أحمد الحر كانت الخطاب الطاغي المنافس لكل البهتان الذي يحطم لمجرد إرتطامه بحجر واهن، لأنها مفردات على فطرية وبساطة نطقها من طفل بمليار رجل تحمل جوهر معنى التضحية حتى الموت غير الطبيعي، وإن لم يكن تحت طلقات الرصاص التي نجا منها بأعجوبة وتمسك بها مرة أخرى على الرغم من جحيم باستيلات العدو الوحشية.
أحمد باختصار، وبعيدًا عن المبالغة في التعبير، جسّد معنى الحلم الفلسطيني التي يعبر عنه كل ثائر يواجه العدو على مدى أعوام الجلد اليومي من كل الجهات في ساحات القدس والخليل، وكل زاوية تقاوم بأقل العتاد، كما كان المرآة الصادقة والمعنى الحقيقي لعبارة "كم كنت وحدك يا أخي يا إبن أمي وأبي، كم كنت وحدك"، حيث خلت المحاكمة من ولي أمره ومحاميه مما يخالف القوانين لدى إحتلال عنصري لا يطبق القوانين إلا وفق مزاجه ومصلحته. لقد كان أحمد وحده خلف أسوار العدو الجبان الذي يحتمي بصرخات السجان وجبروته، والتي عبر عنها شهيد الوطن بشكل مكثف إختصر عمق الفعل حين قال "إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف".
ويبقى السؤال، من هو أحمد مناصرة ؟ لمن لا يعرفه، ولماذا نركز الحديث عنه الآن والسجون الصهيونية مليئة بألف حكاية وحكاية عن التعذيب الوحشي الذي يتعرض له الأسرى والأسيرات. هل هي مجرد ردة فعل عاطفية لفظاعة ما شاهدناه بثًا حيًا لمعنى التنكيل على الهواء مباشرة ستنأى بعد هدوء عاصفة الغصة العالقة في الحناجر، أم أن أحمد مناصرة مختلف في تفاصيل كثيرة، أم لأن محاكمته السافرة تعري من جديد كل ممارسات عبيد الإستسلام وتسويق فكرة صياغة وجودنا في ظل الإحتلال البغيض ودفن خيار الحرية الوحيد من المساومين الذين إستمرؤوا المتاجرة قبل جيش المحققين السفلة من موظفي الإحتلال الذين يستأسدون وراء الجدران ويفرون في الساحات أمام قبضة ساعد وحجر مقاتل.
أولًا، لا بد من ترسيخ ثوابت أكدها شريط المحاكمة أنه لا يمكن لأحد أن ينكر على أحمد عبقرية صموده بكلمة تخاله شابًا عنيدًا تخرج من مدرسة الرفيق الشهيد إبراهيم الراعي، الذي قال "الإعتراف خيانة"، وتمتزج المشاعر لدى مشاهدتنا للمحاكمة بكل تفاصيلها غير المستجدة على عدو هدفه الأول ترهيب الأطفال وردعهم عن مواصلة مسيرة إشتباكهم المستمر الذي لم يوثق مع مشاهد التحقيق، فكل منا شعر بغضب لا يوصف لكنه ما لبث أن فكر بأنّ البكاء لا يجدي مع المصلوبين حتى الموت منذ نكبة العصر الأولى ومتوالية النكبات التي تبعتها.
كل حكاية الطفل المقدسي أحمد مناصرة "مهاني" (13 عامًا) بدأت منذ أن ألقي على الإسفلت غريبًا في وطنه مضرّجًا بدمائه بعد إطلاق شرطة الاحتلال النار عليه في مستوطنة "بسغات زئيف" في القدس المحتلة، وواجه المستوطنون استنجاده طالبًا الإسعاف بعبارات نابية تشمت به وتتلذذ بموته البطيء (بكلمات الصهيوني الحاقدة موت موت)، عدا عما بث لاحقًا في مقطع فيديو انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، أظهر أنّ مستوطنًا كان يشتم الطفل الغارق في بركة من الدماء، بينما يحضر الإسعاف دون تقديم مساعدة فورية له. كل هذا حصل في ظل تواجد كثيف لعناصر الشرطة، وبعدها وللتغطية على فضيحة تماديهم العلنية، حاول العدو تلميع صورته بإظهار أحمد في قسم العناية المكثفة بمستشفى هداسا عين كارم بالقدس، وهو يعالج من كسور أصيب بها في رقبته ورأسه وحوضه، وهم في الحقيقة يقتلونه ألف مرة.
وبعدها ظهر أحمد شامخًا لدى خروجه من المحاكمة مبتسمًا والألم يعتصر روحه الغضة حزنًا على إبن عمه الشهيد حسن، ورعبًا مشروعًا لطفل من المفروض بعيدًا عن عنتريات الوصف أن يكون على مقاعد دراسته يكتب أحلامه ويرسم حبيبة المستقبل، لكن أحمد كبر قبل الآوان كما كل فلسطيني يعيش تحت الإحتلال ويرى القهر كل يوم بعيون هي كل الضوء، في عالم لم يقدم له إلا الموت. لكنه بحدسه الفطري ووعيه المبكر أدرك أن عليه تقبل مصيره، لكن في سياق عدم الإنحناء كالعبيد المحيطين به والأقزام الذين يتجبرون عليه بصرخة لا تملك دواميتها لأنها ليست على حق، ولا تحرك السكون ولن تكون يومًا إلا شاهدًا على غطرسة تعاليهم لا على عصر مقاومين يصنعون المجد لأحمد ورفاقه من جيل الغد. أحمد الذي وجد بكلمات "مش متذكر"، "شو ذنبي"، "جننتوني"، "خلص أنا كذاب"، طريقته الخاصة في عدم الإعتراف رغم ضجيج الأصوات حوله وصفعة تدين عدو ألف مرة، لم يذكر إسم إبن عمه الشهيد ولم يعترف بكاميرات العدو.. فهل وصلتكم رسالة أحمد رغم وجعها وإصرارها ودمه النازف، ودموعه التي لم تجف؟
هنا فقط تكمن قمة الألم بصرخة "ما بعرف" المقدسة، من أحمد العربي الذي عاد بنا بعدم تذكره لأنبل ذاكرة مع الشهيد إبراهيم الراعي وصرخته الأبدية التي لم تخفت يومًا "قد يشنقوني وهذا ممكن وإن شنقوني فلن يميتوني، فسأبقى حيًا أتحداهم ولن أموت، وتذكروني سأبقى حيًا وفي قلوبكم نبضات".. وهكذا ستبقى كلمات أحمد الفطرية التي حاول العدو الغبي إستدراجه عبر القول بأنّ مواجهة العدو ومساعدته شيء قانوني ليبدو بريئًا كما الوديع إصلاحًا لموقفه المتجبر، تكتب أبجدية الحرية حتى لو نطقت ببساطة الطفل الذي لا يعرف كذب الكبار يومًا، ولا كل تمويهاتهم. فأحمد يعرف فقط طرقات القدس وغطرسة العدو وأكاذيب من يسمون أنفسهم ولاة الأمر وفقط، أما أنتم فذاكرتكم وحدها المعطوبة ولن تعيدها كل توصيفاتكم لأحمد بأنه محمد الدرة الجديد، لأنه يريد أن يكون نفسه وحقه وحريته والثأر لدماء إبن عمه كما كل شهيد من حارته ومدينته ووطنه.. وعندما يكبر لن يلتفت لأحد ممن خذلوه، وعلى الأقل لا تتاجروا بكلماته على منابركم غدًا ولا تمنعوه عن صدقه.