افراسيانت - لطفي العبيدي - الارتباط المنطقي الذي يحكم العلاقة بين الرأي العام وأزمات الديمقراطية تُوفّره مسارات طبيعة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. فبينما تحرُس أمريكا مصالح إسرائيل في الأمم المتحدة، وتؤيد هدفها المتمثل في تدمير غزة وتوفّر ذخائرها النوعية للقتل اليومي، تُمكّن على نحو غير قانوني، وبشكل نازي فجّ من شنّ حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة، تهدّد كل فلسطين بالإبادة والتهجير، والمنطقة بأكملها بالفوضى وانعدام الاستقرار.
بعد إعادة انتخاب ترامب اعتقد كثيرون أن يغيّر “صانع الصفقات” المعلن موقفه من حرب إسرائيل ضد حماس في غزة، بعد خيبة الأمل من سياسات جو بايدن. ولكن الرئيس المتقلّب، لم يكن هو الشخص الذي يُمكن أن يقف في وجه نتنياهو بالنظر إلى انحيازه التام لإسرائيل، حتى بعد تعدّيها على سيادة دول حليفة لأمريكا. يبدو أنّ الأمور تدهورت أكثر فأكثر، إذ أعطى ترامب إسرائيل الضوء الأخضر لتفعل ما تشاء في غزة أو في غيرها. ترامب الذي يرغب في “إعادة أمريكا عظيمة مجددا”، يبدو مفهومه هذا وكأنه قائم على الاستخدام المدروس للعدائية، أو الرسوم الجمركية، أو القوة العسكرية للحفاظ على إمكانية مستمرّة للهيمنة التصعيدية على المدى الطويل. الرجل يبدو مقتنعا أنّ تحقيق السيطرة في الداخل والخارج هو جوهر السياسة. وأنّ ذلك يمكن تحقيقه عبر هيمنة مدروسة تُباع لقاعدته الانتخابية بالقول، إنها تهدف إلى جلب السلام أو التفاوض على وقف إطلاق النار. ولكنّه فشل في تحقيق السلام، رغم بحثه عن جائزة نوبل للسلام. دعم إسرائيل في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والفشل في بذل أي جهد جدّي لتمهيد طريق سياسي لتسوية في أوكرانيا، والاعتماد بدلا من ذلك على صناعة الحروب، بينما يتم إعلان السلام.
كلّ هذا يمثل جوهر نهج ترامب المتمثل في ممارسة الهيمنة التصعيدية، داخليا وخارجيا، كما يرى رئيس منتدى حل النزاعات، البريطاني ألاستير كروك. هجوم الدوحة كان هجوما مباغتا جديدا ضمن نمط ترامب إسرائيل، وأسلوب الغدر والنذالة الذي أصبح سمة ملتصقة بهؤلاء. بدأ بالضربة المفاجئة ضد قيادة حزب الله التي كانت تجتمع لمناقشة “مبادرة سلام أمريكية”، وهو الأسلوب نفسه الذي استُنسخ لاحقا في عملية تصفية القيادة الإيرانية في 13 يونيو، بينما كان ترامب يروّج حينها لبدء محادثات الاتفاق النووي مع فريق ويتكوف خلال الأيام المقبلة.
والآن، مع تقديم “مقترح غزة” من ويتكوف نفسه، كطُعم لجمع قادة حماس في مكان واحد بالدوحة، ضربت إسرائيل مقر الاجتماع في دولة قطر، التي تقود جهود وساطة لتحقيق انفراجة في حرب الإبادة الأمريكية الإسرائيلية على غزة. هكذا بدا مقترح غزة لويتكوف “مهزلة، أو خدعة متعمّدة”، بتوصيف “فايننشال تايمز”. فإسرائيل كانت قد قرّرت مسبقا إنهاء الدور القطري، وسواء علِم ترامب مسبقا بضربات إسرائيل على الدوحة، والأدلة تشير إلى أنه على الأرجح كان يعلم، فالنتيجة واحدة: لا أحد يعتقد أنّه يمارس أي سيطرة على بنيامين نتنياهو، بل هو أسير الجموح الصهيوني وجنون اليمين المتطرف. من هذه الناحية، لا يختلف ترامب كثيرا عن جو بايدن، فالرؤساء الأمريكيون المتعاقبون تحوّلوا إلى “طين طيّع” بين يدي رئيس الوزراء الإسرائيلي، هل هناك ما لا يستطيع نتنياهو فعله؟ كان ذلك سؤالا بلاغيا لمن يجيب عليه.
زيادة لافتة في التأييد الشعبي للرافضين للتجنيد في استطلاعات للرأي، أظهرتها صُحف إسرائيلية على غرار “هآرتس”. حيث يرى نحو 33% من اليهود الإسرائيليين أنّ هذا الموقف ليس مبرّرا فحسب، بل ضروري من أجل إنقاذ الأسرى من مخاطر الحملة العسكرية في مدينة غزة. وتتراوح دوافع الرفض بين الاعتراض على الإبادة الجماعية، والاعتراض الأخلاقي على المشاركة في جرائم حرب، والمعارضة السياسية للاحتلال ككل، والقلق من أنّ العمل العسكري يعرّض الأسرى للخطر، إلى جانب الاعتراض على إعفاء المجتمع الحريدي من الخدمة.
أمام كل ما يحدث من احتجاجات وغضب في الداخل، يحاول نتنياهو أن يُلهي الإسرائيليين عن سلسلة الإخفاقات اللامتناهية، التي يشرف عليها من خلال تسليط الضوء على استعراضات تكتيكية لا تؤثر في الواقع. فقبل دقائق من إعلان الجيش مقتل الجنود في الأسبوع الماضي، أصدر بيانا صاخبا عن إسقاط أبراج غزة. كلّ هذا مجرد مقدمة، بينما كانت الغارات الإسرائيلية تسوّي مباني سكنية بالأرض في مدينة غزة وترفع حصيلة القتلى. وفي وقت سابق، احتفل نتنياهو أيضا بضربات جوية إسرائيلية ضد الحوثيين، التي تبيّن خلال اليوم التالي أنّها لم توقف إطلاقهم للمسيّرات والصواريخ على إسرائيل. وبينما يستمر كل ذلك، ما زال هناك 48 أسيرا إسرائيليا بيد حماس، وهو فشل هائل قائم بذاته، يتحمّل نتنياهو شخصيا مسؤولية إطالة أمده ورفض حلّه.
ترامب الذي يدعم نتنياهو في حرب الإبادة يُغيّر اسم وزارة الدفاع إلى “وزارة الحرب” في خطوة تنبئ بمزيد توتر العلاقات الدولية أمام خطاب إدارته العدواني تجاه فنزويلا، وعدائه التقليدي مع الصين، وتوجّسه من التحالف الروسي الصيني لإعادة التوازن للنظام الدولي. لكنّك لن تستطيع مواجهة بكين بسياسة الفوضى الداخلية، وبمزاج متقلّب لا يقبل سوى الطاعة والتمجيد. إذ يبدو واضحا أنّ الشرط الوحيد للترشح لمنصب في إدارة ترامب هو الطاعة المطلقة.
خلال الأشهر السبعة الأولى من ولايته الثانية، أدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغييرات غير مسبوقة في طريقة عمل الحكومة الأمريكية، فقد أطلق نظاما جمركيا غير مألوف وغير متوقع، وألغى برامج المساعدات الخارجية الأمريكية، وعرقل تحالفات الولايات المتحدة، وأطلق حملة على مؤسسات الدولة. كما اعتقل وطرد العديد من الطلاب والباحثين الأجانب، بسبب آرائهم السياسية، وأجبر الجامعات وشركات المحاماة والشركات الكبرى ووسائل الإعلام على تنفيذ أوامره،
وأضعف قدرة وكالات الرقابة الحكومية. كما نشر الحرس الوطني في لوس أنجلس وواشنطن العاصمة، بزعم مكافحة الفوضى والجريمة، وهدّد بإرسال الجيش إلى شيكاغو ونيويورك وغيرهما. ترامب بهذا لا يسعى إلى أجندة حكم، بل إلى إضعاف الدولة، أي تدمير شامل ومقصود لقدرات الدولة في تقدير “فورين أفيرز”. إضعاف الدولة أمر نادر الحدوث في تاريخ السياسة، فالأنظمة الاستبدادية عادة ما تسعى إلى السيطرة على الدولة لاستخدامها، وليس لتدميرها. فهم بحاجة إلى الولاء، ويختارون من هو مخلص، لكنّهم بحاجة أيضا إلى الكفاءة. أمّا ترامب، فيخالف ذلك عندما يتجاهل الإجراءات المعتادة، ويستهين بالخبرة اللازمة لتنفيذ السياسات، ويشجع على سوء الإدارة لإلغاء أي سلطة غير سلطته. ليست قراراته موجهة نحو تقليص البيروقراطية، أو خصخصة بعض قطاعات الدولة، بل يصدر أوامر عشوائية ويتفاوض على صفقات تخدم رغباته الشخصية. أيُنتظر من هذا الشخص تحقيق السلام في الشرق الأوسط مثلا أو في أوروبا؟
تحتاج واشنطن بشدة إلى إعادة التفكير في علاقتها بالقوة العسكرية، وفي تشجيعها مغامرات إسرائيل في المنطقة وتعدّيها السافر على سيادة الدول، كما حدث مع قطر. قبل كل شيء، يجب أن تتوقف عن اعتبار المغامرات العسكرية هي الحل الأمثل لجميع التهديدات المحتملة ضدها، أو ضد كيانها الإرهابي في المنطقة. ترامب جعل من الفوضى سمة النظام الجديد، ويبدو أن السيناريوهات الأسوأ أصبحت أكثر واقعية من أي وقت مضى.