افراسيانت - يعتبر مؤتمر باندونغ للدول الافروآسيوية الذى عقد في خمسينيات القرن الماضي " 1955 "اول مؤتمر دولى تغيب عنه الدول الغربية فى تاريخ العالم. ونتجت عن المؤتمر روح باندونغ والمبادئ العشرة الخاصة بالعلاقات الدولية والتى تعتبر المبادئ الجديدة لاقامة العلاقات الدولية الحديثة. وسيبقى هذا المؤتمر خالدا فى ذاكرة التاريخ باعتباره حدثا سياسيا دوليا مهما فتح صفحة جديدة فى التاريخ.
1 – يرمز مؤتمر باندونغ الى نهوض العالم الثالث، وهو ما غير الى حد كبير الملامح السياسية العالمية وهيكل العلاقات الدولية حينذاك.
عقد المؤتمر باقتراح ومشاركة الدول المستقلة حديثا وهى المرة الاولى فى تاريخ العالم، لان كافة المؤتمرات الدولية التى عقدت قبل ذلك كانت بمبادرة وترؤس ومشاركة الدول القوية الكبرى خاصة الدول الغربية. ولم تتح للدول الضعيفة الصغيرة فرصة المشاركة فيها. وكان افتتاح مؤتمر باندونغ رمزا لصعود الدول المستقلة حديثا الى المسرح السياسي العالمى وانتهاء عهد هيمنة الدول الغربية الكبرى على الشئون الدولية وفتح صفحة جديدة فى تاريخ العلاقات الدولية.
رفع مؤتمر باندونغ الستار عن حركة عدم الانحياز. وكان زعماء الدول الداعية الى عقده والمشاركة فيه مثل الرئيس الاندونيسى الراحل سوكارنو ورئيس الوزراء الهندى الراحل جواهر لال نهرو والرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الميانمارى الراحل ونو والملك الكمبودى نوردوم سيهانوك كانوا المقترحين والقادة الرئيسيين لحركة عدم الانحياز، واصبحت الدول ال29 المشاركة فى المؤتمر اعضاءا رئيسيين لحركة عدم الانحياز. وفى الوقت نفسه، اعتبرت مبادئ مؤتمر باندونغ الداعية الى السلم والاستقرار اساسا لمبادئ حركة عدم الانحياز المتمثلة فى السلم والحياد وعدم الانحياز.
حركة عدم الانحياز
ويعتبر هدف حركة عدم الانحياز امتدادا وتطورا لروح باندونغ. ويمكن القول ان مؤتمر باندونغ ارسى الاساس التنظيمى والفكري لحركة عدم الانحياز. واصبحت دول العالم الثالث التى قوامها دول عدم الانحياز القوة الرئيسية لمعارضة هيمنة الدول الكبرى على العالم وسياساتهما التوسعية والحربية وحماية السلم العالمى. ويمكن القول الى حد ما ان مؤتمر باندونغ كان بداية لنهوض دول العالم الثالث باعتبارها قوة سياسية عالمية تستقل عن الكتلتين الكبريين الشرقية والغربية ومقدمة لتحطيم هيكل القطبية الثنائية وبدء المسيرة العالمية المتعددة الاقطاب.
2- اغنت وطورت المبادئ العشرة الناتجة عن مؤتمر باندونغ المبادئ الخمسة للتعايش السلمى وقوت القاعدة القانونية للعلاقات الدولية الحديثة المعاصرة.
تتضمن المبادئ العشرة عدم الاعتداء على سيادة الدول وعدم التدخل فى الشئون الداخلية والمساواة بين كافة الدول، كبيرة كانت ام صغيرة وصيانة العدالة الدولية وحل النزاعات الدولية عبر وسائل سلمية والاحترام المتبادل والتعاون المتبادل المنفعة والتعايش السلمى. وتعتبر هذه المبادئ مبادئ مثالية لمعالجة العلاقات بين مختلف الدول وضمانا قانونيا واخلاقيا لاقامة العلاقات الدولية الحديثة، وهى ما وضع حدا للقوانين والاعراف الدولية القديمة التى كانت اساسا للنظام العالمى القديم.
وجاء اختيار هذه المبادئ كأساس قانونى لاقامة العلاقات الدولية الحديثة لانها مختلفة جذريا عن مبادئ القوانين والاعراف الدولية القديمة، ويمكن تلخيص الاختلاف فيما يلى:
اولا: وضعت القوانين والاعراف الدولية القديمة من قبل الدول الاستعمارية والامبريالية بهدف تنسيق المصالح والعلاقات بين الدول الغربية القوية وخدمتها فى اقتسام العالم "بصورة منتظمة" واقتسام الغنائم بشكل سلمى. اما المبادئ العشرة فوضعتها الدول المستقلة حديثا وعكست الارادات والطلبات المشتركة لهذه الدول والمتمثلة فى معارضة التدخل والاعتداء الخارجيين وصيانة استقلال وسيادة الدول ومعارضة استئساد الدول القوية الكبرى على الدول المتوسطة اوالصغيرة والسعى وراء الحصول على المكانات والحقوق المتكافئة مع الدول القوية الكبرى بالاضافة الى معارضة السياسات التوسعية والحربية لهذه الدول وحماية السلم والامن العالميين، وهى فى خدمة اقامة علاقات دولية حديثة وحماية المصالح الجوهرية للمجتمع الدولى كله.
ثانيا: رغم ان القوانين والاعراف الدولية القديمة دعت الى احترام سيادة الدولة والمساواة وصيانة السلم وغيرها من المبادئ، غير ان الدول الكبرى حصرت نطاق تطبيقها فيما صنفته من"الدول المتحضرة" وليس"الدول غير المتحضرة"، وحرمت الدول والامم الضعيفة والصغيرة من حماية القوانين الدولية، مما اخضع الدول الضعيفة لاضطهادها. اما المبادئ العشرة فتخدم كافة الدول، وهى ملزمة لعموم المجتمع الدولى، كما هى ضمان لحماية الحقوق والمصالح الشرعية لكافة الدول وخاصة الدول المتوسطة والصغيرة.
ثالثا: تتمثل طبيعة القوانين والاعراف الدولية القديمة فى عدم المساواة بين مختلف الدول، وليس بين القوى الكبرى والدول الضعيفة والصغيرة فحسب، بل بين القوى الكبرى نفسها ايضا. اما المبادئ العشرة فتنص بوضوح على " الاعتراف بالمساواة بين كافة الاعراق والأمم والدول سواء أ كانت كبيرة ام صغيرة"، اى تدعو الى المساواة بين جميع الدول، قوية كانت ام ضعيفة، كبيرة ام صغيرة، غنية ام فقيرة امام القوانين والاعراف الدولية، وان تتمتع كافة الدول بالحقوق المتكافئة فى المشاركة فى الشئون الدولية والمكانة المتساوية على الصعيد الدولى.
رابعا: تعتبر القوانين والاعراف الدولية القديمة منطقا لقطاع الطرق يعطى الضوء الاخضر لاعتداء القوى الكبرى على الدول الاخرى. وزعمت بصورة سافرة ان الحرب التى شنتها القوى الكبرى لاحتلال المستعمرات شرعية وسمحت لهذه الدول باستخدام القوة او التهديد باستخدامها فى معالجة العلاقات الدولية، واعترفت بان "الاحتلال وارغام الدول المستعمرة على التخلى عن ارضها الوطنية" من "الوسائل الشرعية لامتلاك الاراضى"، انها فى الحقيقة"شريعة الغابة" السافرة المتمثلة فى كون الضعيف فريسة للقوى، اما المبادئ العشرة فنبذت شريعة القوة هذه واكدت "احترام السيادة وسلامة الاراضى لكل دولة"، ونصت بوضوح على " عدم الاعتداء او التهديد بالاعتداء او استخدام القوة للاعتداء على سيادة اى دولة والتدخل فى استقلالها السياسى"، فتعتبر ضمانا قانونيا لمعارضة العدوان والتوسع وصيانة استقلال وسيادة كافة الدول خاصة الدول المتوسطة والصغيرة.
خامسا: تعتبر القوانين والاعراف الدولية القديمة مادة محفزة للحروب، لم تعط الضوء الاخضر للحروب التى شنتها القوى الكبرى للاعتداء والاستيلاء على الدول والامم الضعيفة فحسب، بل زرعت جذور التصارع والتحارب بين القوى الكبرى ايضا. اذ ان حروب نابليون والحربين العالميتين الاولى والثانية نشبت بسبب عدم التوازن بين القوى الكبرى. اما المبادئ العشرة فوفرت للمجتمع الدولى السبل الاساسية والمعيار القانونى لتفادى الصراعات والحروب وحماية السلام الاقليمى والعالمى، وجاءت هذه المبادئ تلبية لمتطلبات عموم المجتمع الدولى وباتت عاملا مهما لتجنب الحروب.
3- اثار مؤتمر باندونغ موجة جديدة لنضال الشعوب الافروآسيوية المناهضة للاستعمار واجج حركات التحرر الوطنى، وعجل فى انهيار المنظومة الاستعمارية فى العالم.
باندونغ والدور الايجابي
يتجسد الدور الايجابي الكبير لمؤتمر باندونغ في حركة مقاومة الاستعمار في العالم ثلاث نقاط رئيسية: هى أولا: مثل هذا المؤتمر مظاهرة ضخمة للقوي الحديثة المناضلة ضد الاستعمار والمؤيدة لنضال شعوب الدول والمناطق المستعمرة. وبعد اختتام المؤتمر أصبحت قوى التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية متفوقة على قوى الاستعمار، وحطمت النظام الاستعماري العالمي. ثانيا: قدمت روح مؤتمر باندونغ ومبادؤه العشرة منهاجا مرشدا يوضّح الطريق الصحيح لنضال شعوب الدول المستعمرة ضد الاستعمار كما وفرت سلاحا فكريا وقانونيا قويا للدول المستقلة حديثا في نضالها ضد الاستعمار الجديد والقديم من أجل صيانة الاستقلال القومي وسيادة الدولة، وشقت طريق الانتصار لشعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية في نضالها ضد الامبريالية والاستعمار ولتحقيق الاستقلال القومي وصيانته.
ثالثا: لعب مؤتمر باندونغ دورا في تعزيز الوحدة والتضامن بين الدول المستقلة حديثا في نضالها ضد الامبريالية والاستعمار وقدم المزيد من الدعم المادي والمعنوي لشعوب الدول المستعمرة من أجل تحقيق الاستقلال القومي. وأثار هذا المؤتمر مدا جديدا لنضال شعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ضد الظلم. وتحررت كثير من الدول والمناطق المستعمرة واحدة تلو الاخرى من قيود الاستعمار. وبالذكر أنه خلال نحو ثلاثمائة سنة منذ ظهور الاستعمار في العالم وحتى افتتاح مؤتمر باندونغ عام 1955 نالت نحو ثلاثين دولة مستعمرة فقط استقلالها السياسي. لكن في فترة أربعين سنة فقط بعد مؤتمر باندونغ وحتى تسعينات القرن الماضي حققت أكثر من مائة دولة ومنطقة مستعمرة وتابعة للدول الاستعمارية استقلالها السياسي. الامر الذي أعلن الانهيار النهائي للنظام الاستعماري العالمي الذي استمر أكثر من ثلاثمائة سنة. وقدم هذا المؤتمر مساهمات تاريخية عظيمة لا تنسى ابدا للقضاء النهائي على الاستعمار ونهوض دول العالم الثالث. ويعتبر معلما خالدا في تاريخ حركات التحرر الوطني في العالم .
عقد مؤتمر باندونغ في ظل وضع دولي صعب ومعقد. لأن من بين الدول التسع والعشرين المشاركة في المؤتمر دولا اشتراكية، ودولا موقعة على معاهدة مانيلا، ودولا أعضاء في حلف بغداد، ودولا وطنية محايدة،.... الامر الذي جعل أعمال هذا المؤتمر تجري بشكل صعب وخاصة أن القوى الامبريالية والاستعمارية قامت خلال المؤتمر بسلسلة من أنشطة تهدف الى تقويض أعماله في محاولة للحفاظ على نظامها القديم. وبعد أن فشلت في عرقلة افتتاح المؤتمر، غيّرت خطتها التخريبية، وقامت ببذر الشقاق بين الدول المشاركة وتقسيمها واغراء بعضها في محاولة تدبير مؤمرات وإثارة النزاعات بين دول المؤتمر، وتغيير طبيعة المؤتمر وهدفه الرامي الى مقاومة الاستعمار. وقد أرسلت الولايات المتحدة بعثة صحفية مكونة من أكثر من سبعين صحفيا مزعوما الى مدينة باندونغ لتدبير أنشطة تهدف الى تخريب المؤتمر والتشويش عليه. الامر الذي أحدث أصواتا مزعجة وأثار نكسات وجدلا في المؤتمر.
باندونغ والظروف المشابهة
أن الظروف التي انعقد فيها هذا المؤتمر تشبه في بعض جوانبها تلك التي تعيشها معظم الدول التي تصنف بالعالم الثالث او الدول النامية الان .
عشية انعقاد باندونغ، اندفعت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية، وكانتا في طور الاحتضار، لتضعا كل ثقلهما لإفشال انعقاد ذاك الاجتماع قبل انعقاده، ولتعطيل نتائجه بعد الانعقاد.. ولم تكن الإمبراطورية الأمريكية بعيدة عن تلك "المساعي" لكنها كانت تريد إفشال الحركة الوليدة، ووراثة الإمبراطوريتين الاستعماريتين المترنحتين في الوقت نفسه.
انعقد اجتماع باندونغ يومها، في قلب مرحلة تشهد تغيرات هامة في نظام العلاقات الدولية الدولية، فدول كبرى تتراجع، وأخرى تتقدم، ونظام عالمي أرسى ملامحه اجتماع يالطا الشهير 1944، بين روزفلت رئيس حكومة الولايات المتحدة، وستالين زعيم الاتحاد السوفياتي، وتشرشل رئيس حكومة بريطانيا العظمى، حيث جرى تقاسم النفوذ في العالم قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية.
هذه المرحلة ، تشهد تغييرات هامة في نظام العلاقات الدولية، حيث دول كبرى تتراجع، وأخرى تتقدم، وفيما تهتز أركان نظام عالمي جديد سبق وأعلنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثر الحرب الكونية الأولى على العراق، ثم سعى إلى تجديده و "تعميقه" الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن مع الحرب الكونية الثانية على العراق وما رافقها من حروب وضغوط شملت عدداً من دول المنطقة.
انعقد اجتماع باندونغ عام 1955، والمؤتمر الأول لحركة عدم الإنحياز في بلغراد بعد ست سنوات، في رحم قوى إقليمية ودولية مستقلة وصاعدة بل وقائدة لمجمل حركة التحرر والاستقلال الوطني في إفريقيا وآسيا وجنوب إفريقيا، فيما يجب ان ينعقد اليوم من رحم قوى إقليمية ودولية مستقلة وصاعدة تسعى إلى مواجهة هيمنة القطب الأمريكي الآحادي واحتكاره للنفوذ في العالم، ولعل مجموعة البريكس التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وغيرها من منظومات إقليمية ممتدة من أمريكا اللاتينية إلى جنوب شرق آسيا، هي الأكثر تعبيراً عن هذه القوى الصاعدة.
كانت الخمسينات والستينات من القرن الماضي، عقود العصر الذهبي لحركة عدم الإنحياز، هي سنوات الكفاح الثوري ضد الاستعمار والعنصرية بكل أشكالها، فالحرب في الهند الصينية، وثورة الجزائر، وثورة كوبا، والصحوة الاسيوية والإفريقية العارمة، كانت عناوين لمرحلة تصدّع الاستعمار القديم وتقدّم الخيار الثالث في العالم الذي حرص جمال عبد الناصر على تسميته بالحياد الإيجابي، فيما فضّل نهرو أن يسميه يومها عدم الالتزام (nom committmat) حتى جاء تعبير "عدم الإنحياز" كحل وسط يطلقونه على "حركة" وليس "منظمة".
لقد تمّ استبعاد مصطلح "منظمة" كي لا تختلط الأمور وتتشابك بين المنظمات خصوصاً بعد أن بات واضحاً أن عشرات الدول ستنضم إلى هذه الحركة بما يجعلها موازية أو مناقضة للأمم المتحدة، وقد كان الأباء المؤسسون لحركة عدم الإنحياز يريدونها قوة ضاغطة داخل الأمم المتحدة وليس قوة بديلة أو منافسة...
إما العشرية الأولى من القرن الحالي، فيمكن تسميتها، دون افتعال، حقبة المقاومة والصحوة الشعبية العربية والإسلامية، حيث نجحت المقاومة العراقية، ومعها الأفغانية في إرباك السياسة الإمبراطورية الأمريكية، فيما نجحت المقاومة الفلسطينية ومعها اللبنانية في تحرير الأرض وردع العدوان الصهيوني على المنطقة، وفي إعادة الصهاينة إلى المربع الأول الذي ظنوا أنهم خرجوا منه بعد حرب الأيام الستة عام 1967، وهو مربع القلق على مصير كيانهم نفسه.
إنجازات المقاومة العربية والإسلامية هذه لم تنحصر آثارها في المواجهة مع قوى الاحتلال فحسب، بل أعادت صياغة موازين القوى في المنطقة والعالم بما انعكس بوضوح تصدعاً وتراجعاً في النظام الرسمي العربي قاد إلى ثورات وانتفاضات، كما انعكس تغييراً في النظام الدولي قاد إلى إنهاء القطبية الآحادية وبدء مرحلة تعدد الأقطاب ليس على المستوى الدولي فحسب، بل على المستويات الإقليمية أيضاً.
هنا أيضاً، تتشابه ظروف مؤتمر باندونغ في أواسط القرن الماضي، مع ظروف في مطلع هذا القرن، حيث لم يعد العالم أسير قوى دولية كبرى فقط، بل باتت هناك قوى إقليمية مؤثّرة في هذا العالم لا تملك قدرات مماثلة لقدرات الدول الكبرى، لكنها تملك من القدرات ما يؤهلها لممارسة سياسات مستقلة عن تلك الدول.
طبعاً، لم يكن المشهد نقياً وصافياً تماماً في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، فلقد شاب حركة الكفاح الثوري في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية انتكاسات وأحياناً هزائم، وأمكن لقوى الهيمنة والاستعمار اختراق استقلالات وإجهاض حركات تغيير وتحرر، بل وإشعال حروب أهلية على أنواعها، لمحاصرة روح التحرر المنطلقة آنذاك، فكان الانقلاب على أحمد بن بلة عام (1965)، وسوكارنو عام (1966)، وكانت الحرب على مصر وسوريا عام (1967)، وكان قبلهما اغتيال لوموميا، وتقسيم الكونغو، ومحاصرة كوبا في مطلع الستينات، وكان انفصال السنغال عن مالي عام 1962، وكانت الحرب الأهلية في نيجيريا عام 1966 وما زالت، وكان اغتيال سلفادور اليندي في التشيلي في مطلع السبعينات، وكانت حرب لبنان المستمرة من أواسط السبعينات، وكانت وكانت...، تماماً كما نرى اليوم انقضاضاً على الصحوة الثورية العربية والسعي لتجويفها من مضامينها، وللانقضاض على أهدافها، وللإجهاز على مطالبها المشروعة لخدمة مخططات أجنبية وتدخلات خارجية وتحويلها إلى حروب أهلية دموية.
لكن عنصر الشبه الصارخ يبقى في استحضار المبادئ العشرة لمؤتمر باندونغ، وفي ملاحظة حجم تطابقها مع ما يجب اعتماده اليوم من مبادئ في قمم الشعوب الطامحة إلى التحرر من الهيمنة الاستعمارية ونير العنصرية.
إن هذه المبادئ العشرة لمؤتمر باندونغ، والتي شكّلت أساساً للأهداف الثمانية عشر التي وضعتها حركة عدم الإنحياز، هي:
المبادئ العشرة لمؤتمر باندونغ هي:
1- احترام حقوق الإنسان الأساسية، وأهداف ومبادئ ميثاق الأُمم المتّحدة.
2- احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.
3- إقرار مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها.
4- عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأُخرى أو التعرّض لها.
5- احترام حقّ كلّ دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جَماعية، وفقاً لميثاق الأُمم المتّحدة.
6- عدم استخدام أحلاف الدفاع الجَماعية لتحقيق مصالح خاصّة لأيّ من الدول الكبرى وعدم قيام أيّ دولة بممارسة ضغوط على دول أُخرى.
7- الامتناع عن القيام، أو التهديد بالقيام، بأيّ عدوان. والامتناع عن استخدام القوّة ضدّ السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأيّ دولة.
8- الحلّ السلمي لجميع الصراعات الدولية، وفقاً لميثاق الأُمم المتّحدة.
9- تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.
10- احترام العدالة والالتزامات الدولية.
وباختصار أياً يكن عدد الدول التي يمكن ان تشاركفي " باندونغ جديد " ، وأياً يكن مستوى التمثيل، فإن هذه القمة ستشكل منعطفاً هاماً في حياة الحركة التي كادت أن تزول بفعل ما أصابها من خمول وجمود وبهتان، وستعيد إليها روحاً أشعلها يوماً مؤتمر باندونغ، وأسهمت في تحرير أمم وشعوب ودول كثيرة.
ومن المهم دون شك أيضاً أن تكون القمة منصة لجهد دولي حقيقي يسهم في توفير الأجواء المناسبة لحل سياسي وطني للأزمة السورية واليمنية والايرانية والعراقية وغيرها من الازمات ، يقوم على احترام المطالب الديمقراطية المشروعة لكافة الشعوب ، ، ومقاومة المخططات المشبوهة الرامية إلى تدمير بلدانا محورية في الإقليم وتحطيم وتمزيق النسيج الاجتماعي لهذه الدول.
فمثلا ...الحل للأزمة السورية هو سوري أولاً وأخيراً، ولكنه يستند أيضاً إلى مصالحة عربية، وتعاون إقليمي، وتفاهم دولي.
تبقى القضية الفلسطينية، وقد باتت متعددة المستويات، هي قضية العصر لأن احتلال فلسطين والأراضي العربية المحتلة يكاد يكون من آواخر الاحتلالات في العالم، ولأن النظام العنصري الصهيوني هو آخر الأنظمة العنصرية في العالم، ولأن التعامل الصهيوني الرافض لكل المواثيق والقرارات الدولية يكاد يكون التعامل الوحيد من نوعه في اليوم، والذي يحظى برعاية دولية غاشمة، ولأن السياسة الصهيونية العدوانية باتت عبئاً متزايداً على استقرار العالم وأمنه وسلمه، بل عبئاً متزايداً على حلفاء تل أبيب أنفسهم بدليل الشهادات المتكررة لأركان القوات المسلحة الأمريكية أمام الكونغرس الأمريكي بأن إسرائيل باتت تشكل عبئاً على المصالح الإستراتيجية الأمريكية.
إن انطلاق مؤتمر باندونغ من فلسطين إلى قضايا المنطقة والعالم لمعالجتها، يمكن أن يكون المدخل الأسلم والأفعل والأنجع لمعالجة العديد من المشكلات في الإقليم، وفي ظروف يسعى فيها كثيرون إلى إثارة كل أنواع النزاعات من أجل أبعادنا عن القضية الأساس.
لقد كان مؤتمر باندونغ مؤتمر التأسيس لحركة عدم الإنحياز، فهل يكون مؤتمر إعادة التأسيس لحركة اختارت طريق عدم الإنحياز بين معسكرين منذ القرن الماضي ، اليوم طريق مقاومة الهيمنة الاستعمارية والتفرقة والعنصرية.