افراسيانت - أحمد عبد الرحمن - ما يجري من محاولات لوقف القتال في غزة تحت عناوين مضلّلة، ويحوي بين ثناياه أفخاخاً تهدف إلى حصول الإسرائيلي بالمفاوضات على جزء كبير مما فشل في الحصول عليه بالطائرات والدبابات.
قد أبدو في نظر البعض متشائماً عندما أقول إن الحرب في منطقتنا العربية والإسلامية لم ولن تتوقف خلال الشهور والسنوات القريبة القادمة، بل إنني أعتقد أنها ورغم توقّف إحدى جبهاتها مع لبنان، فإنها يمكن أن تشهد جولات أوسع وأكبر وأكثر سخونة في مراحل قادمة من عمر الصراع الممتد منذ عشرات السنين بين جبهة الحق من جهة، وبين جبهة الباطل من جهة أخرى.
وفي حقيقة الأمر فإن هذه الفرضية لا تستند في أي حال من الأحوال إلى نظرة تفاؤلية أو تشاؤمية محضة، ولا إلى موقف شخصي نابع من رؤية قاصرة ومجتزأة من حيث الزمان والمكان، وإنما تستند إلى تحليل موضوعي يعتمد في الأساس على رؤية شاملة لمجمل الصراع في المنطقة والعالم، وعلى معرفة حقيقية بنيّات محور الشر الذي تقوده أميركا وحلفها الشيطاني وفي المقدمة منه "إسرائيل" تجاه شعوب المنطقة، وتجاه كل من يحاول أن يقف في وجه مشروعها الاستعماري والاستيطاني والإقصائي.
ربما انخدع الكثيرون في منطقتنا والعالم بتلك النظرة التفاؤلية التي تم تسويقها خلال السنوات الماضية، والتي بغض النظر عن سلامة نيّات مطلقيها من عدمه، فإنها ساهمت في ركون بعض الأطراف إلى خيار المهادنة والتهدئة، وإلى تراجع الكثير من حافزية المواجهة في بعض الساحات التي كانت تحيط بها المؤامرات من كل اتجاه وهي لا تدري.
من خلال تلك النظرة، اعتقد البعض أن هناك انكفاءة أميركية من المنطقة، وأن الدور الأميركي النشط الذي اعتدنا عليه أبّان غزو العراق، وبداية العدوان على سوريا، والحروب السابقة على فلسطين ولبنان، قد ولّى إلى غير رجعة، وأن الأميركيين الذين يضعون المعركة الاقتصادية مع الصين، والعسكرية مع روسيا على رأس سلّم أولوياتهم، قد يلجؤون إلى تخفيف وجودهم وتموضعهم الميداني في المنطقة، وقد يضطرون إلى تنفيذ انسحابات استراتيجية منها، ولو على مستوى المواقف والسياسات على أقل تقدير.
ربما كان هذا الاستنتاج نابعاً من شعار "أميركا أولاً" الذي رفعه دونالد ترامب الرئيس الأميركي المنتخب حديثاً في بدايات ولايته الأولى في العام 2016، وهو الأمر الذي ثبُت عدم دقته، وربما نبع أيضاً من عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض قبل أربعة أعوام بعد السنين العجاف لترامب، وهو الأمر الذي ثبُت مرة أخرى أنه غير دقيق، بل إنه بعيد كل البعد ومنفصل تماماً عن الواقع.
خلال السنة الماضية تحديداً، والتي شهدت عدواناً إسرائيلياً بربرياً وهمجياً على قطاع غزة، وما ارتبط به من عدوان سافر وظالم على ساحات أخرى في المقدّمة منها الساحة اللبنانية، أعادت الولايات المتحدة الأميركية الكشف عن وجهها القبيح كما كانت تفعل كل مرة، إلا أنها في هذه المرة ونتيجة الكثير من المتغيّرات التي لا يتّسع المجال لذكرها، وفي ظل موقف عربي وإسلامي وعالمي مخجل ومتواطئ ومشارك قد نزعت قفازاتها الذهبية التي غطّت بها في أوقات سابقة يديها الملطختين بدماء الأبرياء في العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها من الساحات، وأماطت اللثام عن وجهها الذميم الذي يشبه وجه الشيطان بكل تفاصيله القاسية والقبيحة.
وعندما أقول أميركا وليس "إسرائيل"، على الرغم من أن الذي يقتل ويذبح ويجوّع ويهجّر هو الإسرائيلي، فلأنني أعرف كما الكثيرين أن من يقود المعركة في المنطقة هو أميركا، وأن من يسلّح ويحمي ويدعم ويساند بل ويشارك في بعض الأحيان هو أم الإرهاب في العالم أميركا، وأن "الدولة" العبرية ليس كما يعتقد البعض، وليس كما حاولوا أن يقنعونا خلال عشرات السنين التي مضت أنها هي التي تسيطر على القرار الأميركي، وإنما هي مجرد رأس حربة مسمومة دفع بها الاستعمار الغربي إلى قلب الشرق العربي الإسلامي لتنفيذ مخطّطاته، وللاستيلاء على ثروات المنطقة التي حُرم منها أبناؤها، ومن أجل فرض سيطرة شبه مطلقة على جغرافيا حيوية واستراتيجية يرغب الجميع في أي يكون له موطئ قدم فيها.
من المهم أن ندرك هنا أن أميركا وحلفها المجرم لا يمكن أن تفكر لحظة واحدة في ترك المنطقة، أو جعلها تنعم بالهدوء والسلام المنشودين كباقي أرجاء العالم، ومن المفيد أن ندرك أيضاً أن الأميركي بما يملك من إمكانيات، وبما له من تأثير طاغ على الكثير من الأطراف في الإقليم، ما زال يملك أوراقاً كثيرة ومتعددة، ويُخفي في أدراج مكاتب أجهزته الاستخبارية، ومراكز أبحاثه الاستراتيجية الكثير من المفاجآت والألاعيب التي يستطيع من خلالها تحريك جبهات وإخماد أخرى، وتنشيط جماعات، وتثبيط أخرى، وفتح مآلات، وإغلاق أخرى، وهذا كله من أجل الحفاظ على مصالحه ومصالح حلفائه، وفي بعض الأحيان مصالح أتباعه من حكّام وأنظمة، والذين يقدّمون له خدمات جليلة ما كان له أن يتحصّل عليها لولاهم.
عندما كان الأميركي يضع الرتوش الأخيرة، والتفاصيل الصغيرة على اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وفي اللحظة التي كان مبعوثه الرئاسي اليهودي آموس هوكشتين يقوم بزيارات مكوكية بين بيروت و"تل أبيب" لوضع النقاط على الحروف، ولتبريد بعض الرؤوس الحامية في ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرّف،كان في الوقت نفسه يُعطي الجماعات التكفيرية في شمال سوريا إشارة البدء في تنفيذ هجومها الواسع على مدينة حلب وضواحيها، وكان يؤمّن لها كل الدعم العسكري والمعلوماتي سواء بشكل مباشر من خلال ضباط الاستخبارات الأميركيين الموجودين في غرف العمليات على الحدود السورية- التركية، أو من خلال بعض الدول الإقليمية القريبة والبعيدة، والتي كانت على الدوام سبباً مباشراً في نشر مشاهد القتل والدمار والتخريب في العديد من دول المنطقة.
في ظاهر الأمر، قد يبدو أن ما يحصل في حلب الشهباء هو نتاج تعثّر التطبيع التركي - السوري الذي كان يتوقّعه البعض، ونتيجة رفض سوريا أي مبادرات لعودة العلاقات الطبيعية مع الدولة التركية من دون الانسحاب التركي الكامل من الأراضي السورية المحتلة، قد يكون هذا أحد الأسباب الثانوية نعم، ولكن السبب الرئيسي كما نعتقد هو وجود قرار أميركي بالدرجة الأولى بمعاقبة كل من ساهم في منع "إسرائيل" من تحقيق نصر مُطلق -حسب تعبير نتنياهو- على المقاومة في لبنان بشكل خاص، وعلى محور المقاومة بشكل عام، وهو ما كان يُرجي من ورائه تغيير وجه الشرق الأوسط، وتحويله إلى منطقة خانعة وراكعة تحت أقدام الكيان العبري، إذ إن هزيمة أو إضعاف المقاومة الإسلامية في لبنان تحديداً كان يعني توجيه ضربة قاصمة وقاضية ليس فقط لحزب الله ،بل لمجمل محور المقاومة في الإقليم.
وبالتالي، فإن ما يجري في سوريا الآن، والذي نؤمن تماماً أنه سيفشل، رغم حملة التهويل والضغط الإعلامي التي تقوم بها بعض الفضائيات العربية، استكمالاً لدورها الفتنوي المعهود، يمكن أن يتكرّر في ساحات أخرى، وإن بطرق وأدوات مختلفة، إذ يمكن أن نشهد عما قريب، وهناك مؤشرات حقيقية على ذلك، تصعيداً عسكرياً ضد حركة أنصار الله في اليمن، وضد فصائل المقاومة الإسلامية في العراق، ولمَ لا ضد رأس محور المقاومة في المنطقة الجمهورية الإسلامية في إيران! صحيح أن الأساليب يمكن أن تتنوّع بين ضغط عسكري، أو شعبي، أو اقتصادي، إلا أنها ستصب جميعها في خانة تشكيل مزيد من الضغط على دول وجماعات المحور، وربما في مرحلة قادمة الاتجاه نحو مغامرة أوسع وأشمل تهدف إلى إسقاط أنظمة، وإحياء أخرى، وتفكيك جماعات، وتشكيل أخرى.
هذا الاحتمال الأخير الذي يتعلّق بالجماعات والفصائل يتم العمل عليه حالياً بشكل حثيث في قطاع غزة، إذ إنه وبعد الفشل الإسرائيلي في حسم المعركة المستمرة منذ ثلاثة عشر شهراً، وإخفاقه في تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة، وحالة المراوحة التكتيكية والعملياتية التي تعاني منها العملية العسكرية منذ نحو خمسة أشهر، والخسائر الهائلة التي مُني بها في مختلف محاور القتال، كما يحدث في جباليا وبيت لاهيا منذ أكثر من شهرين، فقد بدأ العمل بشكل جدّي تحت عنوان وقف العدوان على محاولة قِطاف نتائج عمليات القتل والتدمير والتهجير الواسعة في القطاع الصغير والمحاصر، وتتوارد الكثير من الأخبار الموثوقة عن محاولات تقوم بها أطراف عربية وإقليمية بدعم وتخطيط أميركي لإقصاء فصائل المقاومة عن المشهد في الفترة القادمة بشكل شبه كامل ،معتمدين على استغلال أوضاع الناس الكارثية، ومعوّلين على رغبة كل سكان القطاع في توقف الحرب الطاحنة التي قضت على معظم أحلامهم في حياة كريمة كما كل شعوب العالم.
ما يجري من محاولات لوقف القتال في غزة تحت عناوين مضلّلة وخادعة يحمل في طيّاته الكثير من النيّات السيئة، ويحوي بين ثناياه أفخاخاً ومصائد تهدف إلى حصول الإسرائيلي بالمفاوضات على جزء كبير مما فشل في الحصول عليه خلال الفترة الماضية بالطائرات والدبابات.
كل ما يجري في ساحة غزة، بالإضافة إلى ما يجري في الشمال السوري، وما يمكن أن يجري في ساحات أخرى، أشرنا إليها آنفاً، يتطلّب من دول وجماعات محور المقاومة أن تكون في أقصى درجات الجهوزية، وألا تركن إلى وعود سبق أن جرّبت زيفها وكذبها، لا سيّما أن القدرة على الفعل التي كان يملكها العدو الصهيوني قبل السابع من أكتوبر لم تعد كما كانت، إذ إن هذا الوحش الذي كان يهدّد كل المنطقة، والذي كان يلوّح بسيفه في وجه الجميع قد بان ضعفه، وظهر كما لم يظهر في أي وقت سابق، ولولا النجدة السريعة التي جاءته على عجل من كل محور الشر في العالم لانهار وسقط وتفكّك، ولولّى هارباً من كل المنطقة كما فعل مستوطنوه في غلاف غزة، وفي المستعمرات المحاذية للحدود اللبنانية.
مطلوب من الجميع في محور المقاومة، دولاً وجماعات، أن تعد العدّة لمرحلة قد تكون صعبة وقاسية، وأن تضع أسوأ الاحتمالات على الطاولة، وتضع إلى جوارها كل الوسائل والأدوات الكفيلة بمواجهتها والتصدّي لها، ففي هذا العالم الذي يملأه الكره والعنف والبحث عن المصالح، لا مكان للطيبين، ولا مكان لأصحاب النيّات الحسنة.
في الختام، لا يفوتنا أن نقدم التهنئة الحارة لكل أهلنا في لبنان العزيز بتوقّف العدوان ،والنصر المؤزر الذي تحقّق على بؤرة الشر والإفساد، رغم التضحيات الجسام،تهانينا لأهلنا في الضاحية الأبية، وفي الجنوب الصامد، في البقاع والهرمل وبيروت الشامخة الشريفة، في عاصمة الشمال طرابلس، وفي الجبل وكل شبر من لبنان الحبيب، آملين من الله أن يتكرّر هذا المشهد في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة عمّا قريب، وأن ينعم أهلنا وشعبنا بالأمن والأمان برحيل هذا المحتل المجرم إلى غير رجعة، وما ذلك على الله بعزيز.