أزمة الهوية الإسرائيلية وانهيار الانتصارات السريعة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - في علم الاجتماع السياسي، تُعتبر الهوية الذاتية واحدة من الأسس المحورية في تشكيل سلوك الأفراد والمجتمعات؛ فالهوية لا تُبنى فقط على العوامل الشخصية، بل تتأثر بشكل كبير بالعوامل الاجتماعية والبيئية المحيطة. لذلك، تُعد الهوية الوطنية والسياسية للدول إحدى الركائز الأساسية، التي تبني عليها المجتمعات تصوراتها الذاتية تجاه نفسها وتجاه الآخرين.

الهوية الوطنية ليست مجرد فكرة ثقافية، بل هي مرتبطة بشكل وثيق بامتلاك الدول للقوة السياسية والعسكرية، التي تحدد موقعها في النظام الدولي. ولكن، حين تفقد دولة ما السيطرة على مصادر القوة التي اعتمدت عليها في بناء هويتها، تدخل في "أزمة وجودية"، حيث تصبح غير قادرة على التعامل مع التحولات الجديدة في موازين القوى.

هذه الأزمة تتجلى في صورة شعور بالضياع وعدم القدرة على التكيف مع الواقع الجديد. لذلك، يكون أمام الدولة خياران: إما التكيف وإعادة بناء هوية جديدة تتناسب مع الواقع، أو البقاء عالقة في محاولات استرجاع الماضي، ما يؤدي إلى المزيد من الاضطراب النفسي والاجتماعي.

هذه الحالة المرضية من الضياع والصراع مع النفس تعكس واقع "إسرائيل".. فمنذ بدايات تشكّلها كدولة وسلطة على الأراضي الفلسطينية، امتلكت إسرائيل دائمًا القوة وأسباب القوة، بل وفائض القوة مقارنة بالدول العربية المحيطة بها، فتشكّلت الهوية السياسية والعقيدة العسكرية الإسرائيلية على أساس امتلاك إسرائيل فائض القوة.

ومع انتصاراتها الكبرى على العرب في السياسة والحروب، تشكّل الخطاب السياسي الإسرائيلي على أساس قدرة إسرائيل على تحقيق التفوق الدائم، وصارت العقيدة العسكرية الإسرائيلية تعتمد على الانتصارات السريعة والحاسمة.  

ومع تبدّل موازين القوى في المنطقة، أي مع امتلاك أعداء إسرائيل (المقاومة) للقوة، سواء من خلال السلاح أو الوعي، لم يعد الخطاب السياسي والعقيدة العسكرية الإسرائيلية، المبنيان على تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة بأثمان معقولة جدًا، قادرين على التعامل بواقعية مع أعداء إسرائيل؛ فقد اعتمدت إسرائيل على أسلوب الاستعلاء والاستكبار الذي يتطلب امتلاك فائض القوة، لكن هذا الفائض لم يعد موجودًا.

قد يُعتبر تغيير الهوية السياسية بمثابة انتحار للمشروع الصهيوني برمته؛ فالنشأة الشاذة لدولة إسرائيل على هوية محددة قد جعلت من الدولة والهوية جسدًا واحدًا بحيث تُخشى نهاية الدولة بانفصال الهوية

أزمة الهوية السياسية والعسكرية

إن استمرار إسرائيل بذات الهوية السياسية والعسكرية القائمة على الاستعلاء، في حين أنها لم تعد تمتلك أصول هذه الهوية، سيزيد من تخبطها في فهم الصراع وطريقة التعامل معه. أما إذا قررت إسرائيل تغيير هويتها السياسية والعسكرية لتتناسب مع الواقع الحالي، فستواجه تحديات عديدة.

أولًا، إن إسرائيل دولة قصيرة التاريخ، ولا تمتلك في ذاكرتها الإستراتيجية خبرة التعامل مع مراحل القوة والضعف كما هو الحال لدى الأمم الأخرى؛ لذا فإن إسرائيل لا تعرف كيف تتصرف الدولة أو الأمة عند مرورها بأزمات تضعفها.. وجودها على الأراضي الفلسطينية لم يسمح لها بالنمو الطبيعي كما تنمو الحضارات والأمم، حيث تعرّف العقل الإسرائيلي على وضعية واحدة فقط؛ تكون فيها إسرائيل قويةً جدًا وعدوها ضعيفًا جدًا.

ثانيًا، قد يُعتبر تغيير الهوية السياسية بمثابة انتحار للمشروع الصهيوني برمته؛ فالنشأة الشاذة لدولة إسرائيل على هوية محددة قد جعلت من الدولة والهوية جسدًا واحدًا بحيث تُخشى نهاية الدولة بانفصال الهوية.

أخيرًا، ربما لم يعد بوسع إسرائيل التراجع عن قرار الحرب بهدف تحقيق الانتصارات المطلقة، والتحول إلى حرب ذات أهداف مصغرة تُستخدم كورقة في مسار تفاوضي يؤسس لمرحلة جديدة، قد تبدأ بإجراء إصلاحات لتعويض صفعة السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه. إسرائيل، التي غرقت في وحل غزة، قد تجد نفسها عاجزة عن منع حرب استنزاف طويل الأمد، تتآكل فيها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.  

مع اقتراب إتمام الحرب بين إسرائيل والمقاومة عامها الأول، تكشف الأحداث عن التأثير العميق لعملية طوفان الأقصى على إسرائيل كدولة وفكرة ومجتمع ومؤسسة عسكرية

تداعيات انهيار الجيش الإسرائيلي

إن تآكل الجيش الإسرائيلي، كما يتآكل أي جيش نظامي في الحروب الاستنزافية، يضعه على طريق الانهيار. وانهيار الجيش في إسرائيل لا يشبه انهيار جيش في دولة وأمة أصيلة وُجدت بشكل طبيعي وصحي. ففي العراق، على سبيل المثال، لم ينتج عن انهيار الجيش انهيار للمجتمع أو الاقتصاد العراقي. بينما في إسرائيل، انهيار الجيش يعني زوال الحبل الذي يعتصم به المجتمع الإسرائيلي، وتفكك المجتمع يعني نهاية فكرة دولة إسرائيل.

مع اقتراب إتمام الحرب بين إسرائيل والمقاومة عامها الأول، تكشف الأحداث عن التأثير العميق لعملية طوفان الأقصى على إسرائيل كدولة وفكرة ومجتمع ومؤسسة عسكرية؛ فقد وضعت إسرائيل أمام أزمة حفاظ على هويتها السياسية والعسكرية التقليدية، وبدأت تعاني من صعوبات في إعادة تعريف نفسها والتكيف مع واقع جديد، حيث لم تعد قادرة على تحقيق الانتصارات العسكرية المطلقة الحاسمة والسريعة، التي كانت في السابق تؤمّن لها العمق النفسي الضروري لتماسك المجتمع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.  

©2024 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology