افراسيانت - صبحي غندور* - يُدرك تماماً من اطّلع على مقال الرئيس الأميركي جوزيف بايدن في صحيفة "واشنطن بوست" وعلى تصريحاته التي سبقت مجيئه للمنطقة، بأنّه كان يخاطب حزبه الديمقراطي والرأي العام الأميركي لتبرير زيارته للمملكة العربية السعودية وتراجعه عن موقفه السلبي من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بسبب ما أعلنته وكالة المخابرات الأميركية حول مسوؤليته عن جريمة قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشجقي. ومن التبريرات التي وردت على لسان بايدن أن زيارته للمنطقة هي من أجل دعم الحليف الإسرائيلي ومن أجل السلام في المنطقة، وليس لموضوع زيادة تصدير النفط السعودي.
طبعاً تبريرات بايدن ليس هي فعلاً هدف لقاءاته في إسرائيل والضفة الغربية والسعودية. فلفهم حقيقة وطبيعة الزيارة الأولى للرئيس الأميركي لمنطقة "الشرق الأوسط" من المهم العودة قليلاً لفترة بدء الحرب الروسية في أوكرانيا حينما ضغطت واشنطن على الدول الأوروبية للأصطفاف معها في فرض العقوبات الإقتصادية على موسكو ووقف استيراد النفط والغاز منها، مما تتطلب تأمين مصادر اخرى للطاقة التي تحتاجها أوروبا، وحيث حاول "البيت الأبيض" حينها الإتصال مع ولي العهد السعودي من اجل زيادة حجم الصادرات النفطية، وقيل آنذاك، أنّ محمد بن سلمان لم يتجاوب مع إتصال "البيت الأبيض" داعياً الرئيس الأميركي لزيارة المملكة السعودية لبحث أي أمر يريده. ولم تثمر بعد ذلك زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون للرياض، والتي جرت بطلب من "صديقه" الرئيس الأميركي، عن تراجع الموقف السعودي المصرّ على حضور بايدن للمملكة ولقائه هناك مع ولي العهد، وهو الموقف الذي دعا أيضاً الأمير خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد، لزيارة واشنطن رغم ما كان عليه من تحفظات لدى إدارة بايدن.
ذلك كلّه كان يتزامن مع عدم النجاح الأميركي في إضعاف روسيا إقتصادياً ومالياً، ومع بدء امتعاض حلفاء أوروبيين من تطورات الحرب في أوكرانيا، ومن النتائج السيئة لإرتفاع أسعار النفط والغاز مما ساهم في أزمة إقتصادية وإجتماعية في دول العالم عموماً ومنها الولايات المتحدة التي هي أشبه بقارةٍ من "خمسين بلدٍ" وتعتمد بشكل كبير على المشتقات النفطية في معظم أنشطتها التجارية، ومما أدّى إلى تضخم إقتصادي فيها وإلى أرتفاع كبير في أسعار السلع التي يستهلكها المواطن الأميركي يومياً.
كانت آمال "البيت الأبيض" أيضاً أن تصل المفاوضات مع إيران بشأن ملفها النووي إلى نتائج إيجابية لكي تعود الصادرات النفطية الإيرانية إلى السوق العالمي، وفي مقدمته أوروبا، وبأن ذلك سيساهم طبعاً في إنخفاض سعر النفط والغاز مما يريح دول الغرب إقتصادياً.
ويبدو أنّ إدارة بايدن كانت على مشارف العودة للإتفاق الدولي مع إيران من خلال الجولة الأخيرة التي جرت في الدوحة لكن جرى تأجيل هذا الأمر إلى ما بعد جولة بايدن في المنطقة لكي يكون هناك الآن شعار "الأزمة مع إيران" في تبرير الزيارة لكل من إسرائيل والمملكة السعودية، خاصة بعد ان ازدادت الأنتقادات لبايدن من داخل حزبه الديمقراطي بسبب تراجعه عن موقفه من ولي العهد السعودي. ولعلّ ذلك يفسر ما حصل مؤخراً من تصعيد في الضغوطات السياسية والإعلامية الأميركية على إيران، وكان منها تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية ثمّ اتهام إيران بتسليح روسيا بالطائرات المسيّرة، إضافة لإطلاق حملة إعلامية واسعة عن موضوع "الناتو الشرق أوسطي" والذي وظّفته إسرائيل للتأكيد على أهمية التطبيع العربي معها.
ولا أجد أي أنسجام أصلاً بين هذه المواقف المتناقضة التي خرجت من إدارة بيدن بشأن إيران وبين ما هو أهداف معلنة أو مبطنة من جولة الرئيس الأميركي. فالتصعيد الأميركي والإسرائيلي ضد إيران (كما حدث في حقبة ترامب/نتنياهو) لا يمكن أن يحقق الأستقرار والسلام والتسويات التي تحدث عنها بايدن في تصريحاته مؤخراً، فكيف بأي تصعيد أمني أو عسكري إذا حصل ضد طهران؟! وأي نفط أو غاز يمكن تصديره من المنطقة في حال تورط اطراف عربية مع إسرائيل في أعمال عسكرية ضد إيران؟!. لذلك لا أرى أن هناك ما هو أكثر مما هو قائم من حالات معاهدات وتطبيع من إسرائيل ومن مشاركات ومناورات عسكرية وأمنية تحدث أصلاً منذ سنوات بين عدة حكومات عربية والقيادة العسكرية الأميركية الوسطى التي أنضمت لها إسرائيل في العام الماضي. ثمّ هل هناك مواقف واحدة مشتركة بين زعماء الدول العربية التسع الذين سيجتمع معهم بايدن في جدّة تجاه إيران والملف الفلسطيني ومسألة التطبيع مع إسرائيل؟!.
باختصار شديد، ارى ان السبب الوحيد الحقيقي لزيارة بايدن للمنطقة هو العامل السعودي ودوره المهم في زيادة تصدير النفط وتخفيض أسعاره دولياً مما يريح الغرب إقتصادياً ويساهم في بدائل الطاقة الروسية لأوروبا ويضرّ مالياً بالإقتصاد الروسي. وهذه الزيارة للرئيس الأميركي هي بحكم الاضطرار وليس بالاختيار. فليست أولويات إدارة بايدن الآن أزمات منطقة الشرق الأوسط ولا طبعاً الملف الفلسطيني. الأولوية الآن للمواجهة القائمة مع روسيا والقادمة مع الصين.
أمّا زيارة بايدن لإسرائيل فهي تحصيل حاصل إذ من غير الممكن ان يزور رئيس أميركي بلداً عربياً ولا يزور إسرائيل أولاً، وحينما فعل باراك أوباما ذلك عام 2009 بزيارة القاهرة فقط وإلقاء خطابه الشهير في جامعة القاهرة، نزل عليه الغضب الصهيوني من كل حدب وصوب، فكيف بجوزيف بايدن الذي تفاخر بمطار تل أبيب بصهيونته، والتي ذكّره فيها الرئيس الإسرائيلي حين زيارته الأولى لإسرائيل في العام 1973 عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، إضافة لتأكيد بايدن على "يهودية" الدولة الإسرائيلية!. ولا أفهم كيف يرضى أي مسؤول فلسطيني أن يستقبل بايدن "الصهيوني" الذي لم يتراجع عن أي قرار مهم اتخذه ترامب بشأن القضية الفلسطينية والقدس والمستوطنات في الأراضي المحتلة، وتشجيعه الكبير لمسيرة التطبيع العربي مع إسرائيل بغض النظر عن الحقوق الفلسطينية. وعوضاً عن دعم الشعب الفلسطيني في حقه بدولته المستقلة وتحرير أرضه من الأحتلال (كما يفعل الناتو في اوكرانيا) سيطلب بايدن من إسرائيل اعطاء تراخيص عمل اكثر للفلسطينيين من غزّة والضفة للعمل في إنماء دولة الأحتلال، وسيقدم مساعدة مالية لمستشفى فلسطيني في القدس الشرقية يُعالج حتماً من يصابون برصاص جيش الأحتلال الإسرائيلي!!.
"الزائر" بايدن، و"المزارون" في إسرائيل والضفة والسعودية، جميعهم يريدون استثمار جولة الرئيس الأميركي لتثبيت "شرعية" حكمهم في دولهم وتجاه شعوبهم رغم عدم مشروعية قضاياهم القائمة على مصالحهم الخاصة!.