افراسيانت - صبحي غندور - هناك، بلا شكّ، حاجةٌ قصوى للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتّى الثقافي، في عموم المنطقة العربية، غير أنه أجدى بالولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الأخرى التي تتحدّث عن الحاجة للديمقراطية في البلاد العربية أن تبحث أيضاً عن مقدار مسؤولياتها عن أسباب التخلّف السياسي والاجتماعي لدولٍ عديدة خلال القرن الماضي كلّه، وعمّا قام به معظم دول الغرب من استعمارٍ مباشر وغير مباشر، ومن سلبٍ لثروات الشعوب النامية، ومن حربين عالمتين مدمّرتين للعالم كلّه، ومن "حربٍ باردة"، كانت دول "العالم الثالث" هي ساحة الصراع الساخنة لها، ومن دعمٍ مطلق ومفتوح للعدوان الإسرائيلي الغاشم لأكثر من نصف قرن على الشعب الفلسطيني كلّه وعلى عدّة دولٍ عربية.
فالحديث "الغربي" عن الديمقراطية والإصلاح في دول "الشرق الأوسط" هو دعوة حقّ يُراد بها باطل، خاصّةً أنّ المقصود بها لا يشمل إسرائيل (رغم اعتبارها، حسب المفهوم الغربي، بلداً هامّاً في "الشرق الأوسط"). ففي الحديث عن الديمقراطية والإصلاح يتمّ استثناء إسرائيل، وفي الحديث عن العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية تصبح مشاركة إسرائيل أمراً ضرورياً وحتمياً لا يمكن تجاوزه. وفي كلا "الحديثين" لا ذكر لمسألة الاحتلال الإسرائيلي ولمسؤوليته أصلاً عن الكثير من السلبيات الراهنة في حاضر وتاريخ المنطقة.
نعم، إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، لكن الديمقراطية هي وجه من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه.
ولذلك فإنّ إنهاء أزمات المنطقة يكون بدايةً في إنهاء كافّة أنواع التدخّل الأجنبي (الإقليمي والدولي) في بلدانها، وبإزالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وإعادة الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطيني.
هكذا أصلاً نشأت الولايات المتحدة الأميركية، فهي تحرّرت أولاً من الهيمنة البريطانية، ثمّ شرعت هذه الولايات في بناء وضع دستوري سليم تناسَبَ مع ظروفها وجغرافيتها والأصول الثقافية لشعوبها.
فما تحتاجه المنطقة العربية الآن، ليس فقط الإصلاح السياسي الداخلي، بل هناك حاجةٌ ماسّة إلى صيغة تكاملية اتّحادية بين الأوطان العربية، بحيث يتكامل أيضاً في بلدان المنطقة كلّها العدل السياسي مع العدل الاجتماعي، وبحيث يرتفق التحرّر الوطني مع الحرّيات السياسية والبناء الدستوري السليم في البلدان العربية.
ولعلّ خير مثال على أهمية التلازم بين الإصلاح السياسي الداخلي وبين تكامل الأوطان العربية هو مراجعة ما حدث ويحدث في البلدان العربية بشمال أفريقيا. فالسودان والجزائر يشهدان الآن حراكاً شعبياً يسعى للتغيير والإصلاح السياسي، وقبلهما شهدت مصر وتونس وليبيا انتفاضاتٍ شعبية أدّت إلى تغيير في أنظمة الحكم، لكن لم يتحقّق بعدُ في هذه البلدان ما كانت تطمح له شعوبها من استقرارٍ سياسي واجتماعي وتحسّن كبير في الأوضاع الاقتصادية والأمنية. تُرى، لو كانت الانتفاضات الشعبية قد طالبت أيضاً بالتكامل مع محيطها العربي، ولو جرت في الحدّ الأدنى حالات من التكامل الاقتصادي والتنسيق الأمني بين هذه الأوطان، فهل كانت ستشهد ما تشهده الآن من صعوباتٍ لبناء مستقبلٍ أفضل؟!.
للأسف، فإنّ الواقع العربي ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات العملية على أرضه، لا تقيم التوازن السليم المطلوب بين ثلاثية الأهداف المرجوّة لمستقبل الأمّة العربية: الديمقراطية والتحرّر وتعزيز الهُويّة العربية.
فالبعض يدعو للتحرّر ولمقاومة الاحتلال لكن من منابع فكرية فئوية أو من مواقع رافضة للهُوية العربية. وهناك في المنطقة العربية من يتمسّك بالهُوية العربية وبشعار التحرّر من الاحتلال لكن في أطر أنظمة أو منظّمات ترفض الممارسة الديمقراطية السليمة. وهناك من يعتقد أنّ وحدة الهُوية العربية تعني بالضرورة أحادية الفكر والموقف السياسي فتمنع الرأي الآخر وتعادي التعدّدية الفكرية والسياسية التي هي جوهر أي مجتمع ديمقراطي سليم.
هو اختلالٌ كبير في المنطقة العربية بكيفية التعامل مع شعارات الديمقراطية والتحرّر والهُوية العربية، وفي ذلك مسؤولية عربية مباشرة وليس فقط نتيجة تدخّل خارجي أو هيمنة من طرفٍ إقليمي أو دولي.
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة (الديمقراطية فقط) في البلدان العربية أنّهم يفصلون المسألة الديمقراطية عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية (فقط) عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول والهيمنة على مقدّراتها، إن لم نقل أيضاً تفتيت وحدة كيانها ومجتمعها.
وكم كان محزناً اقتران السعي من أجل الديمقراطية في بعض البلدان العربية بالحديث عن "الفيدرالية" وبالدعوة للتدخّل الأجنبي من الخارج، وبممارسة أسلوب العنف للتغيير في الداخل، وبالانقسام الطائفي والإثني في المجتمع، وبنموّ المشاعر المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة. فهذه سمات الأهداف المنشودة من القوى الأجنبية الفاعلة في أجزاء عديدة من الأرض العربية، بحيث تكون "الديمقراطيات العربية" قائمة على الفرز الطائفي والإثني أكثر ممّا هي تعبيرٌ صحّي سليم عن التعدّدية والتنوّع في المجتمع، "ديمقراطيات" تكون متلازمة مع مشاريع التفتيت والتدويل للمنطقة، لا مع غايات التحرّر والتوحّد الوطني والعربي!.
فالمنطقة العربية أصبحت سوقاً استهلاكية لمشاريع دولية وإقليمية، وحكوماتها المعنيّة بالأزمات تحصد ممّا تزرع أمنياً، لكن لا تلبس ممّا تصنع سياسياً. فالمشكلة عربياً ليست في كيفيّة فهم الصراعات وأطرافها فقط، بل أيضاً في المقدار المتاح لحرّية الإرادات المحلّية!
وهناك حتماً مسؤولية "غربية" وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي، ومما شوّه وأساء إلى الكثير من الانتفاضات الشعبية العربية وحرف ببعضها عن مسارها الصحيح.
لقد استغلّت أطرافٌ خارجية ومحلّية سلبياتٍ كثيرة لحال "النظام الرسمي العربي المريض"، لكن هذه الأطراف قزَّمت الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كلّ بلدٍ عربي، فتحوّلت الهويّة الوطنية إلى "هُويّة مناطقية"، والهويّة الدينية الشمولية إلى "هويّة طائفية ومذهبية" في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أو قبيلةٍ أخرى، أو حتّى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!. ولقد أصبح فرز "قوى المعارضة" عربياً يتمّ على أسسٍ طائفية ومذهبية وإثنية، في ظلّ التركيز الإعلامي العالمي على التيّارات السياسية الدينية في المنطقة ككل، فأيِّ "معارضة وطنية" هي التي ستقود إلى مجتمعٍ ديمقراطي سليم؟!. ثمّ لو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا "وطنه العربي الكبير"، ولا قضيّته الكبرى فلسطين!.
صحيحٌ أنّ المسألة الديمقراطية هي أساسٌ مهمّ للتعامل مع كلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، لكن العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيّد، وتفترض حمولةً عليها، وهدفاً تصل إليه. وهذه الأمور ما زالت غائبة عن الدعوات للديمقراطية في المنطقة العربية. فتوفُّر آليّات الحياة السياسية الديمقراطية وحدها لن يحلّ مشاكل الأوطان العربية، بل العكس حصل في عدّة بلدانٍ عربية شهدت من الديمقراطية مظاهرها وآلياتها الانتخابية فقط.
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات ممّا يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة .. وهي كلّها مسائل معنيّةٌ بها أوطانٌ عربية مختلفة، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
وإذا كان من الطبيعي أن تنتفض بعض شعوب دول المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، فإنّ الحراك الجماهيري السليم يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم وإلى أسلوبٍ سلمي في العمل، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف الوطنية العامّة، وليس لمصالحها الفئوية الخاصّة..