افراسيانت - صبحي غندور - ما تحتاجه فلسطين في ذكرى نكبتها السبعين هو أكثر ممّا يحدث الآن من ردود فعلٍ فلسطينة وعربية ودولية على قرار ترامب بشأن القدس وافتتاح السفارة الأميركية فيها، وعلى القتل الإجرامي العشوائي الذي تمارسه إسرائيل على الحدود مع غزّة. وأيضاً أكثر من الحراك البطولي الشعبي الفلسطيني في غزّة والأراضي الفلسطينة المحتلة. ففلسطين تحتاج الآن إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في ربع القرن الماضي من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين "سلطة فلسطينية" في الضفّة الغربية وبين "الدولة الإسرائيلية" التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
فالمطلوب فعلاً وحالياً هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظّمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كلّ المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
المشكلة الأساس كانت وستبقى بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من مواقف وانقسامات وصراعات يبني عليها العدو الإسرائيلي ومن يدعمه. المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية جرت في المفاوضات والاتفاقيات مع إسرائيل. المشكلة هي في انتقال الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه "صراع فلسطيني/إسرائيلي"، إلىت قزيمٍ أكبر بوصفه صراع إسرائيل مع "منظّمات مسلّحة"!. كذلك، فإنّ سقوط المراهنة على دور أميركي "نزيه ومحايد" لم يرافقه تحسين الواقع الفلسطيني والعربي، وتغيير للنهج المعتمد منذ عقود. وبداية الطريق السليم تكون في رفض أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة وتحرير الأراضي المحتلّة.
مشكلة الانقسام الفلسطيني ازدادت حدّةً بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" والتي ثبت، بعد25 عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يدعم الآن حكومة نتنياهو وسياستها في كامل قضايا الملفّ الفلسطيني.
فالتصريحات التي تصدر عن "البيت الأبيض" بشأن القضية الفلسطينية، كلّها تكرّر ما يقول به نتنياهو من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل. فموضوع "الاحتلال الإسرائيلي" مغيَّب عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّشٌ كثيراً في الإعلام الأميركي، كما هو الظلم أيضاً في مساواة مسألة "الإرهاب" بالمقاومة ضدّ الاحتلال.
لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني هي العنصر الأهمّ المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ضدّ إسرائيل والسياسة الأميركية الداعمة لها. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!.
لقد أدانت السلطة الفلسطينية سياسات ترامب تجاه القضية الفلسطينية، لكن ما البديل الذي طرحته؟ هل أعلنت مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال؟ هل تّمت إعادة بناء "منظّمة التحرير الفلسطينية" لكي تكون "جبهة تحرّر وطني" شاملة توحِّد الطاقات والمنظمّات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو لم يعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، هل كان الاستيطان قد توقّف؟! وهل كانت المنطقة تعيش برداً وسلاماً؟! وهل ستقبل حكومة نتنياهو (وخلفها إدارة ترامب) بدولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟!.
لقد كانت مسألة المستوطنات رمزاً لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، وللاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقودٍ طويلة. فإذا عجزت إدارة أوباما - الإدارة الأميركية السابقة - ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية، على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن إدارة ترامب على ذلك وعلى إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
لقد كانت السنوات القليلة الماضية مناسبة جداً لمحاولة فرض أجندة إسرائيلية على المنطقة كلّها، الهدف الأساسي فيها هو التشجيع على الصراعات الطائفية والإثنية، وتكثيف الإستيطان، وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلّة.
إنّ المعيار الأساس في سياسة واشنطن تجاه القضية الفلسطينية هو التمسّك بأسس السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي/الإسرائيلي ككل، والتي تقوم على:
* إسقاط أسلوب المقاومة أو أي تهديد بالحرب ضدّ إسرائيل في عموم المنطقة.
* ضرورة المفاوضات المباشرة بين العرب وإسرائيل كأسلوبٍ وحيد لحلّ الصراع.
* الاعتراف بإسرائيل والعلاقات الطبيعية معها قبل التوصّل لاتفاقيات نهائية
* شرذمة المواقف والمسارات العربية من خلال الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل.
* بقاء واشنطن المرجعية الأولى للاتفاقات مع دور "فولكلوري" للأمم المتحدة وأوروبا وروسيا، كأطراف فيما كان يُعرف باللجنة الرباعية، والتي انتهى دورها عملياً مع مجيء إدارة ترامب وحديثها المتكرّر عن "صفقة القرن".
واشنطن تريد الآن إعادة الاعتبار لهذه الأسس، ولما تحقَّق أولاً بين مصر وإسرائيل ثمَّ بين منظمّة التحرير وإسرائيل ثمَّ بين الأردن وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد، كما تريد واشنطن إنهاء أيَّة حالة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وجعل أسلوب التفاوض مع إسرائيل هو الأسلوب الوحيد المتَّبع في المنطقة رسمياً وشعبياً، وطبعاً في ظلِّ التفوّق العسكري الإسرائيلي. وهو سعي نحو المجهول إذ لا يوجد موقف أميركي واضح من حدود الدولة الفلسطينية المنشودة أو عاصمتها أو طبيعة سكّانها (مصير المستوطنات) أو مدى استقلاليتها وسيادتها!. فالمبادرة العربية التي أقرّتها قمّة بيروت، وكذلك هو الموقف الفلسطيني، يطالبان بدولة فلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 وبأن تكون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضية اللاجئين، فأين هو الموقف الأميركي من ذلك؟!.
ربّما تريد إدارة ترامب جعل "الدولة الفلسطينية" مشروعاً قابلاً للتنفيذ في ظلّ اتحادٍ كونفدرالي يضم الأردن وفلسطين وإسرائيل معاً، خاصّةً في ظلّ ما تحمله الساحة الفلسطينية من احتمالاتٍ مستقبلية يُراد بها استمرار السلطة والصراع عليها في آنٍ واحد، وبما يؤدّي إلى القناعة بالحلّ الكونفدرالي مع الأردن وإسرائيل. فهناك مشاريع أميركية وإسرائيلية تتحدّث عن كونفدرالية أردنية/فلسطينية/إسرائيلية بشكلٍ متلازم مستقبلاً مع إعلان "الدولة الفلسطينية" لكي لا تكون هذه "الدولة" مستقلّةً فعلاً. وهذا المحور الثلاثي مطلوب مستقبلاً كقاعدة للعلاقات بين إسرائيل والدول العربية كلّها، ولكي تكون إسرائيل جزءاً من المنطقة تجارياً واقتصادياً من خلال شراكتها مع الأردن و"الدولة الفلسطينية".
يحصل التصعيد الإسرائيلي العسكري الآن على الحدود مع غزّة وفي سوريا، متزامناً مع التصعيد الأميركي السياسي في عموم منطقة الشرق الأوسط، انطلاقاً من أنَّ هذا التصعيد لن يكون مقابله خسارة، أي لن يخسر الإسرائيليون شيئاً ولا الإدارة الأميركية الحالية.. فهل هو هكذا فعلاً واقع الحال العربي والفلسطيني!؟.
إنّ الرؤية واضحةٌ جدّاً الآن لكيفيّة الخروج من المأزق الذي هي عليه الآن السلطة الفلسطينية وعموم الوضع العربي. فالسلطة الفلسطينية هي أمام خيارين: إمّا التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيّارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة، تطالب بالحدّ الأدنى من حيث الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشريف، وبناء دولة فلسطينية مستقلّة على هذه الأراضي (وعاصمتها القدس)، ثمّ تفاوض هذه الدولة حين قيامها على مصير اللاجئين الفلسطينيين دون التخلّي عن حقوقهم المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية.
وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها – كما هو من حقّها- تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها لكي لا يحدث أي خلل سياسي وأمني في الساحة الفلسطينية، ولمنع إسرائيل من استغلال أي عملياتٍ فردية قد تسيء إلى معركة التحرّر الوطني الفلسطيني. عند ذلك، سيجد الإنسان الفلسطيني أملاً في قيادة تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع مسألتيْ المقاومة والتفاوض.
المراهنة في العقدين الماضيين كانت فقط على أسلوب التفاوض مع إسرائيل وعلى دور "الوسيط الأميركي"، وهي كانت مراهنة على سراب، وعلى أضغاث أحلام لا جدوى فلسطينياً وعربياً منها. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.