الهروب الى الامام وتصدير المشاكل الداخلية، سمة الدبلوماسية الاردوغانية
افراسيانت - دائماً ما تقترن السياسة بالبراجماتية، فالعلاقات بين الدول غالباً ما تحكمها المصالح لكنها نادراً ما تشهد تحولات انقلابية وجذرية بل إن مثل هذا التغير فعل سياسى مريب وملغز، وهو يعكس نوايا مبيتة تحركها أطماع عدوانية غير مقبولة بعد أن تبدأ الحقائق فى الظهور لاحقاً.
لم نشهد تحولًا وتغييرًا للسياسات الداخلية والخارجية لأي دولة ذات ثقل إقليمي بشكل واسع كما شهدناه مع أنقرة في ظل حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فخلال عام واحد فقط ظهرت كثير من المشاهد المتناقضة والمتحولة بالسياسة التركية الداخلية والخارجية، والتي لم يتوقعها المراقبون والمتخصصون.
الغريب ليس في تغير السياسات أو المواقف التي تراها أنقرة تعبر عن مصالحها المستقبلية، بل في تحول اللهجة والتصريحات تجاه شيء ما بشكل يوحي بأنه لا توجد مبادئ للسياسة القائمة عليها الدولة، فمن تصريحات تعبر عن عداء شديد أو موقف يعبر عن اقتناع كامل، ترى تحولًا كاملًا في أقل من شهور بتصريحات متناقضة تمامًا تفاجئ الجميع .
خلال اقل من اربع وعشرين ساعة، قَلَبَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقفه من النقيض الى النقيض, دون ان يُفسّر كيف لموقف متناقض كهذا ان يُطمئِن الحلفاء او الأصدقاء(على قِلّتهم)َ اوعواصم الاقليم التي تتفق او تختلف معه, دون ان تخشى استمرار هذه التقلبات التي باتت تُميِّز السياسات والدبلوماسية التركية في السنوات الاخيرة, وبخاصة في ما يتعلق بالازمة السورية وجارتها العراقية وبعض ملفات الاقليم المُعقّدة, كالازمة التي تعصف بمجلس التعاون الخليجي والتي قد تطيح المجلس وتجعله من الماضي, بعد ان استنفد دوره في ما يبدو, او بات عسيراً استمرار العمل بصيغته التي لم تتطوّر او تتجذّر, على نحو تجعل من تفكيكه او تعديل ميثاقه امرا صعبا،فضلاً عن تداعيات هذه الازمة التي تتّخذ منها انقرة موقفا معروفا, يكاد يطوي كل محاولاتها السابقة للعب دور مركزي في دول المجلس الست, على قاعدة «مذهبِية» صرفة, تفوح منها رائحة «التجارة» وفتح اسواق جديدة امام الصادرات التركية الى دول المجلس, بما في ذلك عقد شراكات وجذب استثمارات بل وطموح الى بناء قواعد عسكرية على النحو الذي تكرّس في قطر, وبخاصة بعد تفعيل الاتفاقية العسكرية الخاصة بذلك, مباشرة بعد اندلاع الازمة الخليجية.
في المثال :
عشية سفره الى منتجع سوتشي الروسي للالتقاء بالرئيس بوتين، اطلق الرئيس اردوغان تصريحا مُدويا وغير مسبوق غمَز فيه من قناة البيان الروسي الاميركي المشترَك الذي أصدره الرئيسان الروسي والاميركي حول سوريا, والذي جاء فيه انهما «مُتفقان تماماً على ان لا حل عسكريا للازمة السورية»، الامر الذي استفزّ اردوغان ودعاه للقول: «....لديّ مشكِلة في فهم هذا البيان، اذا كان الحل العسكري خارج الحسابات، فعلى من يقولون ذلك.. ان يسحبوا قواتهم».
وكأن اردوغان يواصِل الرهان على الحل العسكري, الذي في نظره ربما لم يبدأ بعد، وخصوصا بعد ان تم «تفويضه» من قبل الراعِييْن الشريكين في «ثلاثية» مسار استانا(روسيا وإيران)، العمل على وضع اتفاقية منطقة عدم التصعيد في ادلب ومحافظتها.. موضع التنفيذ .
لم تمضِ اربع وعشرون ساعة على تصريح الرئيس اردوغان الذي طلب فيه من موسكو وواشنطن سحب قواتهما من سوريا, ان كانتا تُصرّان على ان لا حل عسكريا للازمة في سوريا، فاذا به يُطلق تصريحا مناقضا تماما ليُؤكّد في مؤتمر صحافي مع الرئيس الروسي في سوتشي: على «أهمية البيان الروسي الاميركي حول سوريا، مشيرا الى انه اتفق مع بوتين التركيز على حل سياسي للازمة السورية».
فكيف حدث ذلك؟ وكيف لدبلوماسية كهذه ان تحظى بثقة من يتعاطى معها او يحاول بناء علاقات استراتيجية طويلة المدى مع دولة لا يتوقف رئيسها عن القول انها محورية وفاعلة ولا يمكن تجاوز دورها او تهميشه؟
....ثمة موقف مُماثِل تراجعت انقرة عنه بالسرعة ذاتها التي وقفت منه موقفا معارِضاً وهو اعلانها انها «تُعارِض انعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري» الذي دعت اليه موسكو بعد انتهاء الجولة السابعة من محادثات استانا, حيث سارع وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو الى القول إن اتفاقاً كهذا على موعد واجندة المؤتمر لم يَحدث بين الرعاة الثلاثة، ثم ما لبث وقبل ذهابه مع رئيسه الى سوتشي الإعلان بأن بلاده «لا تُعارِض عقد مؤتمرات لحل الازمة السورية»، لكنها ــ أضاف مُستطرِداً ــ لا توافِق على دعوة اي مجموعة إرهابية» في اشارة واضحة الى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري, حيث يرى اوغلو ان هذا الحزب «لا يُمثِل كُلَ الاكراد في سوريا».
التقلُّبات التي ميزت المواقف والسياسات التركية من ازمات وحروب المنطقة العربية, وانخراطها المباشر فيها ودعمها كل محاولات إسقاط الدولة السورية والتدخل في الشؤون العراقية واتخاذ موقف عدائي صريح ومُعلن من مصر, والعمل بلا كلل من اجل عرقلة كل الجهود المبذولة لتقديم منطق الحلول السياسية على منطق الحروب والارهاب, تشي كلها بان الدور التركي لم يكن ايجابيا بل كان عدائياً وعدوانيا ومتغطرِساً, بذلت انقرة كل ما توفرت عليه من امكانات لصب الزيت على نار الازمات, وإشاعة الفوضى والخراب على اكثر من ساحة عربية. لكنها سرعان ما وصلت الى مأزقها الكبير, على النحو الذي نشهده في تناقض وارتباك سياساتها ودبلوماسيتها الاقليمية كما الدولية.
*استدراك:هناك مَن يُشبِّه الرئيس التركي بالرئيس الاميركي ترمب في تناقض مواقِفِه. ويذكرون مثالاً ما يزال طازجاً حيث اعلن ترمب بعد مصافحته السريعة مع بوتين على هامش قمة مجموعة»أبيك» التي التأمت في دانانغ بفيتنام مؤخراً: انه» يُصدِق» تماما الرئيس الروسي, عندما ينفي تدخّل بلاده في الإنتخابات الرئاسية. وما ان امتطى «ترمب» طائرة الرئاسة في طريقه الى الفليبين حتى أطلق تصريحاً يُكَّذّب فيه نفسه قائلاً:انه «يثِق»بصحة تقارير وكالة المخابرات الأميركية, التي»أكّدت» تدخّل روسيا في تلك الإنتخابات (....).
خفايا التناقضات التركية
هذه الخفايا تعكس نوايا مبيتة تحركها أطماع عدوانية غير مقبولة بعد أن تبدأ الحقائق فى الظهور لاحقاً، ولقد كان للموقف التركى تجاه الجار القريب الحليف أسباب تمثلت فى المواقف والغايات الآتية:
1- مع بدء اشتعال الأزمة السورية قام رئيس المخابرات التركية بزيارة غير معلنة لدمشق وعرض تدخل أنقرة لصالح النظام شريطة عودة الإخوان المسلمين وإتاحة الفرصة لهم فى أداء دور سياسى مناسب فى تلك المرحلة، لكن النظام السورى رفض هذا العرض.
2- كان حزب «العدالة والتنمية» يتحين الفرصة من واقع انتمائه العقائدى للمساعدة فى تمكين الإخوان المسلمين فى النطاق القريب المباشر لدولة ملاصقة، ونتيجة تنبه النظام السورى للمخطط التركى جاء انقلاب أنقرة عنيفاً فى تناقض تام للعلاقات الاستراتيجية السائدة.
3- راهن النظام التركى على سرعة سقوط النظام السورى، فاندفع للتدخل بكل قوة فى ملف الأزمة وساند قوى الإسلام السياسى وخص فى البداية الإخوان المسلمين بدعم كامل.
4- استطاع النظام السورى أن يحافظ على بقائه فى السلطة مما تسبب فى ازدياد تورط الأتراك وتعقد موقفهم فى الداخل السورى.
5- نتيجة تعقد الأوضاع على الأرض بدأ الأكراد السوريون فى تثبيت أوضاع ميدانية على الأرض بعد معركة كوبانى وبدء تفاهمات مع النظام فى دمشق حول إقامة حكم ذاتى للأكراد فى مناطقهم الشمالية من سوريا، وقد أدت هذه الأوضاع إلى تفاقم قلق النظام التركى .
من سلام مع الأكراد إلى محاربتهم
الملف الكردي يعتبر من أكثر الملفات البارزة التي تحول فيها موقف أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بطريقة لافتة، فالرئيس التركي الذي كان ينادي بالسلام مع حزب العمال الكردستاني؛ لكسب تعاطف الأكراد داخل تركيا في العمليات الانتخابية المتكررة، سرعان ما تغيرت تصريحاته تجاه هذا الحزب، ووصفه بالإرهابي.
منذ الضربات الجوية التي شنتها روسيا في العام الماضي في مناطق متفرقة بسوريا، وتركيا تحمل موقفًا مناهضًا لهذا التدخل، متهمة إياه بأنه ليس موجهًا ضد الإرهاب ولا هدفه استقرار سوريا، الأمر الذي وصل إلى حد التصعيد مع روسيا بإسقاط إحدى الطائرات التابعة لها التي كانت تجوب في المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، لكن يبدو أن الموقف تغير كثيرًا في أقل من عام في هذا الملف.
فمن تصريحات أردوغانية على شاكلة أن الطيران الجوى الروسي يستهدف الأخضر واليابس ويقتل الأطفال والنساء ويمحو المعارضة السورية المعتدلة لتوسيع سيطرة النظام، إلى تحول 180 درجة في التصريحات بعد المصالحة التركية الروسية، وآخرها تأكيد وزير الخارجية التركي أن أنقرة قد تسمح للقوات الجوية والفضائية الروسية باستخدام قاعدة “إنجرليك” الجوية في أضنة؛ لمحاربة الإرهابيين في سوريا.
وبعيدًا عن الأسباب التي أدت إلى الرغبة التركية في إتمام المصالحة مع روسيا بهذه السرعة وفقًا لمصالحها السياسية، فإن إخراج المشهد وخاصة التصريحات المختلفة في المضمون خلال أقل من شهور يقرؤه متخصصون ومتابعون بأنه يعبر عن تناقض واضح في السياسة التركية تعودت عليه تركيا في سياستها الخارجية الأعوام الماضية.
ظل أردوغان وحزبه، طيلة الفترة الأخيرة وخاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة وارتفاع حدة الخطاب الإسلامي، ينددان بسياسات الكيان الصهيوني مدافعين بصورة اتضحت أنها وهمية عن القضية والمقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال، فبينما كانت تركيا ترى وجوب مقاطعة الكيان الصهيوني بل ومحاربته جراء أفعاله وممارساته اليومية ضد الشعب الفلسطيني في سائر أنحاء الأراضي المحتلة، تغاضت في الوقت الراهن عن كل ذلك بتطبيعها معه بصورة أضرت بالقضية الفلسطينية نفسها أكثر من الوقت الماضي.
وفي الخمسة أعوام الماضية خاصة بعد حادث إطلاق النار على سفينة مرمرة التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لقطاع غزة، وصل التوتر التركي الإسرائيلي إلى أوجه عام 2010 ، حيث كانت الحكومة التركية ترى وعلى لسان رئيسها حينذاك رجب طيب أردوغان أنه لابد من إعلان الحرب على إسرائيل، معتبرًا الهجوم بمثابة «إرهاب دولة» وأن تركيا «لن تقف مكتوفة اليدين» إزاءه، لكن يبدو أن المشهد تغير كثيرًا وأن الستة الأعوام التي مرت على الحادث كانت كفيلة بأن يتناسي الشخص نفسه “أردوغان” ما حدث من انتهاك واضح مرمرة، خاصة بعد أخذه 20 مليون دولار، ما جعله يتنازل عن حق عدد من الأسر راح دمهم هدرًا في حادثة مرمرة الكارثية؛ بدافع أن هذا المبلغ كفيل بتعويض هذه الأسر عن أرواح ذويهم في مقابل أن تحصل إسرائيل على البراءة الكاملة من هذه الجريمة في المحاكم الدولية، وتتصالح تركيا مع إسرائيل.
وتثير زيارات أردوغان المتتالية إلى المنطقة الكثير من التساؤلات خصوصا بعد رفض السعودية التعاطي مع الوساطات التي تهدف إلى تسجيل الحضور وتسليط الأضواء على صاحبها، فضلا عن انحياز الرئيس التركي من البداية لطرف دون آخر، ويريد أن يحصل على مقابل سريع لهذا الانحياز.
يقول متابعون للشؤون الخليجية إن الرئيس التركي يتحرك في الظاهر بثوب الوسيط، لكنه يهدف في السر إلى توسيع دائرة الخلاف بين قطر وجيرانها الخليجيين لاستثمار ذلك في الضغط عليها لتوقيع اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مختلفة تفك أزمة الاقتصاد التركي المتراجع على خلفية تراجع الموقع التركي سياسيا بسبب أردوغان نفسه.
الاتساق او التناقض !
عندما تتكلم كثيرا، يظهر مدى التماسك أو الضياع في خطابك، وعندما تزداد التحديات من حولك، تنكشف قدراتك ويتم التعرف على مهاراتك، وعندما تدخل حقلا مليئا بالألغام والأشواك السياسية، يعرف القريبون والبعيدون عنك حجم الاتساق أو التناقض في حديثك.
هذه القواعد ربما تنطبق جميعها على رجب طيب أردوغان رئيس تركيا، فخطابه الذي صال وجال فيه على قضايا عدة، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، جعله يستحق بامتياز أن يطلق عليه وصف “المتناقض”.
في الوقت الذي طلب فيه- على عجل- وزير خارجيته موعدا للقاء وزير خارجية مصر، حوى خطاب أردوغان كلمات، عفى عنها الزمن، من نوعية “الانقلاب”، لوصف النظام الحاكم في مصر، وهو ما وضعه في تناقض فاضح، فإذا كان النظام الحالي في مصر انقلب على الديمقراطية ووأد الحريات، كما تزعم، فلماذا كان وزير خارجيتك حريصا على لقاء وزير خارجية “الانقلاب”؟ وإذا كانت القيادة المصرية غير مؤثرة إقليميا، فلماذا أرسلت إشارات للقاهرة مؤخرا، بشأن ضرورة البحث عن محور إقليمي، لمواجهة المخططات الأميركية في المنطقة، حسب كلام مصدر دبلوماسي لي قبل أيام؟
تناقضات أردوغان لا تقف عند أعتاب مصر، بل تمتد إلى كل القضايا التي تتلامس معها أنقرة تقريبا، فتركيا تريد أن تكون لاعبا مهما في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي يقوم به تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا، وفي الوقت نفسه متهمة بقوة أنها أحد داعمي هذا التنظيم، والدليل الإفراج عن عشرات من مواطنيها بلا فدية أو مقابل، ولم يعلم أحد حتى الآن تفاصيل الصفقة، التي أدت إلى هذا الإفراج.
أردوغان في خطابه أمام الأمم المتحدة صوّر بلاده على أنها ملاذ اللاجئين وجنة المظلومين والفارين من نار بشار الأسد في سوريا، ونسي أن كميات كبيرة من الأسلحة مرت، ولا تزال، تمر عبر حدود بلاده، إلى المتشددين، وتجاهل أن تصوراته وممارساته أحد أهم عوامل تضخم التيار التكفيري من المنطقة، فكيف يستطيع التوفيق بين كونه أحد أسباب تصاعد الأزمة، وفي نفس الوقت باعتباره جزءا من حلها؟
من جهة ثانية، أردوغان خطط منذ فترة لتكون بلاده بوابة أوروبا على كل من الشرق الأدنى والأوسط، وعندما أخفق في الأول، جراء تعاظم مشكلاته في الشرق الأدنى، وانسداد الأفق أمامه، راوده حلم التركيز على الشرق الأوسط، ليس كمفتاح أو معبر لأوروبا، بل كمهيمن عليه، خاصة بعد أن صعد نجم التيار الإسلامي في المنطقة، وتكرس هذا الشعور، عقب اندلاع الأزمة في سوريا، وخروج العراق من المعادلة، وارتباك مصر لفترة، بموجب صعود حلفائه الإخوان (الضعفاء) للحكم، لكن تمكن الرئيس عبد الفتاح السيسي من تعديل الدفة في مصر، شعبيا وديمقراطيا وأمنيا وحتى استراتيجيا، أصاب أردوغان بشيء من الدوار، لأنه كان سببا في إفشال مخططه الخيالي، بأن يصبح خليفة المسلمين الجديد.
شكلت القضية الفلسطينية الذريعة الأساسية التي تتبناها السياسة التركية للتدخل في قضايا المنطقة العربية في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم، ومثلت موضوعا تعبويا استغله واضع السياسة التركية للتغلغل في الوعي الشعبي العربي والمزايدة على الأنظمة العربية، وتوظيف الدور التركي في القضية لاكتساب شرعية إسلامية وبناء مكانة اقتصادية وتأثير إقليمي ودولي.
لكن تطورات الأوضاع في سوريا والعراق وتصاعد السردية الطائفية لصراعات المنطقة جعلت الساسة الأتراك يستديرون للاستثمار في “القضية السنية” لتحتل لديهم أولوية على القضية الفلسطينية، غير أن المصلحة القومية التركية ظلت باستمرار جوهرا ثابتا للسياسة التركية.
أما المواقف الإقليمية، ومهما بدت أخلاقية أو أيديولوجية، فتبقى مجرد أدوات متغيّرة لتحقيق الأمن الاستراتيجي والحلم القومي لتركيا، وهو ما يؤكده الأكاديمي العراقي مثنى علي المهداوي، فيقول “إن المصالح القومية وتحولات السياسة الإقليمية هي التي تحدد موقف الحكومة التركية من الصراع العربي – الإسرائيلي، وليست المتبنيات الأيديولوجية الإسلامية لحزب أردوغان أو المشتركات الدينية مع العالم العربي”.
يبدو الهاجس الإيراني حاضرا ومؤثرا بقوة في السياسة الخارجية التركية، فما يحكم العلاقة بين البلدين هو التزاحم الجيوسياسي والتنافس الإقليمي وصراع النفوذ؛ لكن براغماتية الطرفين تمنع التصادم المباشر بينهما وتتيح لهما الاستثمار في نزاعات المنطقة وتحولاتها والاستمرار في التدافع البيني مع الاحتفاظ بـ”مساحة أمان” لتبادل المصالح الاقتصادية والتنسيق المشترك.
وتمنح هشاشة أوضاع العالم العربي الفرصة للبلدين للتمدد والتأثير فيه بصيغ مختلفة. ويفسر الباحث المهداوي ذلك بأن تركیا بمنظورها البراغماتي عملت على تعزیز مركزها الإقلیمي على حساب إسرائیل عن طریق توظیف الأوضاع العربیة لمصلحتها؛ لكنها لن تتردد في التراجع عن موقفها من إسرائیل في حالة تزايد نفوذ إيران في غرب آسيا أو انفتاح الغرب على طهران.
تدفع علاقات تركيا مع أوروبا من جهة والشرق الأوسط من جهة أخرى بحكم الجغرافيا والتاريخ أنقرة إلى خلق توازنات في مصالحها الاقتصادية والسياسية. لكن علاقاتها مع القارة العجوز ليست في أفضل حالاتها، بعد توترات سياسية عقبت محاولة الانقلاب الفاشلة العام الماضي.
حتى بعد مرور عام على الانقلاب الفاشل لا يزال تأثيره واضحاً على السياسة الخارجية والداخلية. ويرى مراقبون أن التوجه التركي لإرسال قوات برية خارج حدودها، كتواجد قوات تركية في شمال العراق، قرب الموصل، والتدخل التركي في شمال سوريا، ثم إرسال مدرعات إلى قطر بعد تصاعد الأزمة بين الإمارة الصغيرة وشقيقاتها، والتواجد في الصومال يهدف إلى الهروب نحو الخارج بسبب مشاكل داخلية وموقف الجيش "الضعيف" بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، ضمن تكهنات غير واضحة من مخاوف حدوث انقلاب آخر.
غير أن الباحث في العلوم السياسية محمد العربي يشير إلى أن "تركيا تفتقد اليوم النظرة الإستراتيجية في تحركاتها. فقد تحولت تلك الإستراتيجية من الفعل والمناطق الواضحة إلى إستراتيجية سلبية تحاول بقدر الإمكان الإستفادة من التناقضات، ولكن لا تحاول بناء منطقة نفوذ إيجابية تكون لها جاذبية لدى شعوب تلك المناطق، سواء في المجال التركي المتاخم لروسيا أو في المجال العربي".
كما يرى الباحث المصري أن المصالح الاقتصادية تفرض نفسها على ما يمكن تسميته التشويش الاستراتيجي. وهذا "ما شهدناه بعد إسقاط تركيا للطائرة الروسية. المصالح الاقتصادية لها اليد الطولى دائماً". ويضيف "تعاني دول المنطقة عموماً وتركيا خصوصاً من كيفية الموازنة بين استدامة وتعميق المصالح الإستراتيجية"، سواء في علاقاتها مع الغرب أو العالم العربي، وبين الطموحات التي تفرض تناقضات على هذا المصالح.
ليس هنالك علاقات تبدو ثابتة تركيا الا العلاقات مع جماعة الاخوان المسلمين , لذلك فان العديد من المحاولات لا تزال قائمة لدعم توجهات الجماعة في كل اماكن تواجدهم كالاردن ومصر واليمن وغيرها من البلدان.