افراسيانت - عمان - الغد - هو مساء لا يشبه مساءات أيام مضت. ظلت الألسن تلهج بالدعاء، بعودة معاذ سالما، أو بث ما يرسل خبرا عن سلامته، لكن تنظيم "داعش" الإرهابي، أعتم قلوبنا، ببثه تسجيلا لأبشع عملية إعدام قد يتخيلها المرء في هذا الزمان.
ومع بث التسجيل، يكون معاذ كتب صفحة جديدة من كتاب تاريخ شهداء الأردن الأبطال، الذين قدموا لوطنهم الغالي والنفيس، مضحين بحياتهم لأجل ترابه، وافتدوه بالمهج لكي يبقى علمه خفاقا لا يمسسه سوء.
ومعاذ الكساسبة، ابن لواء عي، الواقع في جنوب محافظة الكرك، وتقطنه عشائر البرارشة، الذين اهدوا ماءهم وزرعهم للجوار مبكرا، فيما قدموا ارواحهم على جبهات الوطن، سيفا ورصاصا ودما، وحجزوا لأسماء أبنائهم، مكانا في لوحة الشرف الوطني؛ شهداء الواجب والبطولة.
والشهيد الطيار البطل معاذ الكساسبة، خاض حربه وحربنا، في الدفاع عن قيم الاعتدال والتسامح في ديننا الحنيف، وحربه وحربنا في حماية حدودنا وأمننا، وحربه وحربنا في إثبات أنه كان للباطل جولة، فإن للحق جولات؛ ففي استشهاده تفاصيل كثيرة، ترويها طلعة طيار بطل بدد بضربات الحق على اوكار الارهاب والتطرف، ظلام الفكر والارهاب.
معاذ اسم صار تاريخا، ووجه صار قِبلة للدموع، وروح تسافر بيننا، تصهر خلافنا على خدمة الوطن، لا اختلافنا عليه، وهو اليوم رقم صعب قَبل القسمة على الجميع، وحاصل جمعه ضمير أردني كريم.
وبحجم استشهاداتك الثلاثة؛ رسمت خطا وطنيا يعتليه اسم وطن ومملكة، وتقوٍم بنيانه ارواح شهداء، تماهت مع علياء ارواحهم، ارتفاع رايات الوطن.
معاذ، روعة الشباب وكبريائه؛ فهو الطيار فارسا، والطيار خلقا، ففي ما قدمه بعض دم يروي عروق تاريخنا بقصص الصمود والتحدي، والجلد على غدر العدو وبطشه، واستقوائه على أعزل.
ومن ملامح وجهك، أيها البطل، يأخذون عن الاردنيين درس الوطنية وبوحهم عن روايات بطولاتهم عند الاحتدام والالتحام، وفزعتهم عندما يختبئ الجبان.
لروحك الطاهرة سلام، ولبطولتك الخلود، واستشهادك قصة نكتبها بذات القلم، وعلى ذات الصفحة، من سفر الشهيدين فراس العجلوني وموفق السلطي.
لكن الفرق بينكم جميعا، انهما قاتلا عدوا ظاهرا، وانت اغتالك عدو جبان، وبين الفرقين دمعة، ووعد بالانتقام والثأر.
وسيبقى حاصل الجمع في استشهادكم، ان دماءكم الطاهرة كتبت تاريخ أردن التحدي والصمود.
معاذ؛ رجالك في الأردن علموا بان يد الغدر ستطالك منذ لحظة اسرك، لكنا كبرنا على الوجع، وصبرنا على الامر، وتركنا للقدر أن يأتينا بما هو خير، وشهادتك الخير والخير كله.
ايها البطل، فدتك العيون، لكن لم تكن الصفقة جادة او صادقة، وكان الغدر اليك اقرب من موافقتنا.
ايرضيك، يا معاذنا، ان تنعاك بلادك والاردنيون، ففي بيوتنا اليوم، صورتك وعزاؤك وقهرنا!
أيرضيك يا معاذ، ان تكون بطلا كأجدادك من عشيرتك، الذين حضروا "الهية"، وقاوموا ظلم العثمانيين، وخاضوا حرب العرب، في نكبة القرن الماضي ونكسته!
أيرضيك أن تزفك أغاني الوطن شهيدا، وأنت الذي سبقك لهذا الفضل، عمك وصفي، شهيد الرجولة والوطنية.
أيرضيك أن تكون في بيوتنا ضيفا خالدا، وصورتك في قلوبنا لا يغطيها الجرح والقهر.
أيرضيك أن تكون بيوتنا، إلى جوار بيت أبيك، تستقبل ونستقبل فيها المهنئين بشهادتك، ونقبل جبين صافي القلب والاسم، ونهنئه بمعاذ المجد والتاريخ.
معاذ ذهبت لترتاح، وتركتنا مثقلين بحمل أمانتك، فدمك لن يكون مهدورا، وروحك ما ذهبت بالمجان، وبعدد دقات قلبك ستكون مداميك، هز عرش الإرهاب ومتطرفيه.
ليس صدفة أن يكون دمك هو الذي يوحد الأردنيين، وشهادتك هي التي تجمعهم، فالوطن؛ من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه كانت بيوته مصابة بالحزن والفاجعة أمس. والأمهات جميعهن كنّ يتحسسن بطونهن التي أنجبتك، إذ لم تعد ابنا للكساسبة أو الكرك فحسب، بل أصبحت ابنا لجميع الأردنيات اللواتي ثكلنك، ولكل المدن الأردنية وبيوتاتها التي تعلق صورتك شامخا على جدرانها.
في وجداننا، ستظل صورتك البهية حين حلقت بطائرة العز، وذهبت كي تبعد نار الإرهاب عن حدود الوطن. في وجداننا ستظل صورتك الطازجة وأنت تدك جحور الإرهاب، وتميط الأذى عن صورة الإسلام الحقيقية التي أراد الإرهابيون إلصاقها بها. كما سنحتفظ بصورتك شهيدا للحق سرتَ أمام زملائك، وأنت تعطيهم درسا لا ينسى في حب الدين والوطن والانتماء.
معاذ، لقد أرخيت على أردنك هيبة الشهادة، وها نحن أهلك؛ نكتسي فخرا بهيبة ثوب الشهيد، ورائحة دمك المعطر مسكا وعنبر.