افراسيانت - هاني المصري - منذ فترة، تتلاحق الأحداث والإجراءات الفلسطينية التي تدل على فقدان الاتجاه، وعدم التوازن في اتخاذ القرارات وتنفيذها. نبدأ بالتوقف أمام الدعوة الانفرادية لعقد المجلس الوطني الفلسطيني، جلسة طارئة بمن حضر وتحت رحمة الاحتلال، وهو الذي لم يعقد جلسة عادية منذ أكثر من عشرين عاماً، من أجل هندسة مؤسسات المنظمة على مقاس فرد، أو في الحد الأقصى على مقاس أشخاص عدة، ما يدل على مدى التخبط والارتباك الذي بات يسود «المؤسسة» (أستخدم كلمة «مؤسسة» مجازًا)، إلى أن تمّ التراجع عن تلك الدعوة بسبب المعارضة الواسعة، وفي ظل الخشية من عدم ضمان النتائج. وحتى الآن، لا نعرف متى ستعقد الجلسة التي أُجّلت من أيلول إلى كانون الأول الماضي.
ومن ثم ننتقل إلى وضع السلطة التي تحتاج إلى إعادة نظر في شكلها ووظائفها والتزاماتها وعلاقتها بمنظمة التحرير، لا سيما بعد الحصول على العضوية المراقبة في الأمم المتحدة، وبعد تجاوز إسرائيل لكل الالتزامات وتغوّلها في تطبيق مخططاتها التوسعية والاستيطانية والعنصرية. وبدلًا من ذلك يتواصل الأداء المتناقض بالحديث منذ حوالي العام عن تطبيق قرارات المجلس المركزي، التي نصت على تغيير العلاقة مع الاحتلال من علاقة مع شريك سلام إلى علاقة بين شعب واحتلال، وإلى وقف التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، والتلويح بسحب أو تجميد الاعتراف بإسرائيل. بينما في المقابل نشهد استمرار التنسيق الأمني والإشادة به، وإبقاء العلاقات الاقتصادية على ما هي عليه، لدرجة أن حكومة الوحدة الوطنية التي يجري التفاوض على تشكيلها في لقاءات الدوحة مطالبة بأن تلتزم بالتزامات المنظمة، التي تقول قيادتها إنها لن تستمر في الالتزام بها من جانب واحد.
أما المصالحة، و «ما أدراك ما المصالحة»، فدائمًا ما تحمل «الجديد». ففي اجتماع الدوحة الأخير اتُفق على صيغة عملية لتنفيذ الاتفاق العملي، على أن ترجع الفصائل إلى قياداتها، في حين أنّ الحقيقة تظهر استمرار القواعد التي حكمت الحوارات والاتفاقات السابقة. يضاف إلى ذلك اشتداد الخلافات والصراع على الخلافة والمناصب في «فتح» و «حماس»، وبين الداخل والخارج، وبين السياسيين والعسكر، وبين الممسكين بمفاصل السلطة والذين هم خارجها.
وبالانتقال إلى التدويل، فبعد عام من الحديث عن اللجوء مرة أخرى إلى مجلس الأمن للحصول على قرار لم نستطع الحصول عليه أو حتى على الأصوات التسعة التي تكفل عرضه للتصويت، بدأ التهديد مرة أخرى باستقالة الرئيس وتسليم مفاتيح السلطة، وباتخاذ قرار سيغير وجه الشرق الأوسط، وبدأ البحث عن مشروع قرار جديد سيقدم إلى مجلس الأمن حول الحماية الدولية، وأخيرًا استقر الحال على أن يكون حول الاستيطان، غير أنه لم يحدث شيء من ذلك، بسبب الانشغال الفلسطيني بالمبادرة الفرنسية التي انطلقت منذ عامين وجُمدت، ثم تم إحياؤها، ثم جمدت، ليتم إحياؤها مؤخرًا، وهي التي تقوم بتقطيع الوقت واللعب في الوقت الضائع أكثر من أي شيء آخر.
إذا انتقلنا إلى مواضيع داخلية، فحدّث ولا حرج. فالاعتقالات والاستدعاءات السياسية في الضفة والقطاع، خصوصًا في الضفة، تسير على قدم وساق. كما أن الطريقة الأمنية التي تم فيها التعامل مع إضراب المعلمين والتشويه والاعتقال ونصب الحواجز واستخدام الجوامع، واستدعاء مدراء المدارس بحضور المحافظ وأفراد من الأجهزة الأمنية وتهديدهم من مغبة استمرار الإضراب، واعتباره جزءًا من مؤامرة وانقلاب تنفذهما «حماس» تارة، أو المتجنحين من جماعة محمد دحلان تارة أخرى، أو خصوم رامي الحمد الله في «فتح» والسلطة والقطاع الخاص لمصلحة تشكيل حكومة وحدة وطنية تارة ثالثة، كل ذلك يدل على نوع من فقدان التوازن والسيطرة.
ما سبق يدل على عدم توفر القناعة والإرادة لفعل أي شيء سوى تدمير الذات، واعتبار بقاء السلطة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا هو الهدف المقدّس، إلى أن تستأنف المفاوضات التي تهدف إلى حماية السلطة من الانهيار أو التغيير.
ما سبق غيض من فيض، بدلالة ما يجري في وزارة الصحة من إغلاق مستشفيات، وكيفية التعامل مع الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية وغيرها من المؤسسات، وما جرى مع مؤسسة محمود درويش، وغير ذلك الكثير، وهو ما يدل على أن علامات القيامة الفلسطينية تتلاحق، وهي قد تكون قيامة نحو الأفضل، أي للتجديد والتغيير والإصلاح، بدليل صمود الشعب وانتفاضته وتمسكه بحقوقه وهويته الوطنية، واستعداده للكفاح في أسوأ الظروف، أو قد تكون مدخلًا نحو الفوضى والانهيار والدمار والاقتتال، وإعادة صياغة السلطة لتكون سلطة لا تكتفي بالتعايش مع الاحتلال، وإنما تقبل ما يعرضه من حلول تصفوية!