افراسيانت - وسيم ابراهيم - السفير - المعاني المطاطة للتصريحات الأوروبية، حول الحرب السورية، بدأت تفقد ليونتها بوضوح. باتت وجهتها مختلفة الآن، بعد أكثر من أربع سنوات على استخدامها المتكرر، منذ بداية الأزمة إلى الحرب. المسؤولون على امتداد دول الاتحاد الأوروبي، وفي عاصمته بروكسل، عادوا للانشغال بحاضر سوريا. ضاق الهامش، وبات هذا الحاضر يطالهم بعدة أشكال: هناك ما يسمونها "أزمة اللاجئين"، تمدد "داعش" وأخواته، قبل أن يأتي الحضور العسكري لتعزيز النفوذ الروسي الذي هم في صراع متواصل معه على أرض أوكرانيا.
أمام هذه المعطيات، صار الرئيس السوري بشار الأسد "مؤهلاً" للحديث معه، لإنهاء الحرب وإطلاق عملية انتقالية. تقول ذلك ألمانيا، فترد فرنسا بأنها جاهزة لقبوله لكن "ليس إلى الأبد". إيران مطلوبة بشكل متزايد لمحاولة إنجاز التسوية. على الجهة المقابلة، تجاوزت بروكسل تصريحاتها الحذرة، متحدثة عن رفضها عرضاً تركياً لإنهاء "أزمة اللاجئين" إلى أوروبا عبر الانخراط في إنشاء "منطقة آمنة". في الأساس، ليس معروفاً إن كانت بقيت أية فرصة لفرض حظر طيران فوق الشمال السوري، بعدما صار سلاح الجو الروسي جاهزاً للتحليق في سمائه!
الحرب السورية حضرت على طاولة اجتماع القمة الأوروبية الأسبوع الماضي. ما دفعها إلى "تصدّر الأولويات الديبلوماسية، كما قال مصدر أوروبي، هو تدفقات اللاجئين المتواصلة. هناك خطوات ستتخدها الدول الأوروبية على المدى القصير، لكن بروكسل بدت مدركة تماماً للدور الأساسي الذي تلعبه البوابة التركية المفتوحة.
أخيراً، وافق رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك على الحديث بصراحة عن المسألة. يبدو أنه لم تعد المداورة تجدي نفعاً، الحديث في العموم بما يساير الابتسامات التي تبادلها مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. زار توسك أنقرة أوائل هذا الشهر، في إطار جولة على دول الجوار السوري بحثاً عن إمكانية تطويق "أزمة اللاجئين". بعد نهاية القمة الأوروبية، يوم الجمعة، سُئل توسك عما يمكن فعله مع أنقرة وما الطروحات التي حملها من هناك. قال بدون مواربة إن تركيا وضعت على الطاولة حلاً وحيداً هو "إنشاء منطقة آمنة"، قبل أن يسارع إلى التشديد على أنه رفض العرض معتبراً أن الاقتراح التركي "شيء مختلف عما نحتاجه".
مستعرضاً الموقف الأوروبي، شرح توسك أن الرفض جاء "لأن الاقتراح التركي، يعني أنهم يقترحون إنشاء شيء ما على طول 80 كيلومتراً، ما يسمى منطقة آمنة، مع الأوروبيين والأميركيين، مع سيطرة عسكرية، مع منطقة حظر جوي، لكن أيضاً مع وجود (لقوات برية) على الأرض". كرر توسك رفض العرض بلغة ديبلوماسية "إنه مشروع طموح جداً، لكن بالنسبة لنا اليوم فإن الأكثر أهمية هو التعاون مع شركائنا، ليس فقط تركيا، حول المشكلة الملحّة وهي اللاجئين".
مع ذلك، بعض من كانوا من آلة صنع القرار الأميركي لا يزالون يدافعون عن هذا الطرح. آخرهم دافيد بترايوس، الرئيس الأسبق لهيئة الاركان الأميركية ولوكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه". في أول شهادة له أمام لجنة في الكونغرس، منذ ترك منصبه، اعتبر أن على واشنطن وحلفائها تأسيس وحماية "ملاذات آمنة"، لتعمل فيها قوات "المعارضة المعتدلة" وليلجأ فيها النازحون.
وزارة الدفاع الأميركية عارضت طويلا هذا الخيار، متحدثة عن تعقيدات تطبيقه وكلفته ومخاطره. أنقرة حرصت على إظهار تقارب مع واشنطن حول "المنطقة الآمنة"، خصوصاً بعدما فتحت قواعدها للطائرات الأميركية. لكن لم تظهر أية مؤشرات أو خطوات حاسمة، حتى الآن، لتبني البيت الأبيض هذا الخيار.
على أية حال، حينما يرفض الأوروبيون ما طرحته أنقرة، فهم يسرِّبون صدى تفاهماتهم مع حليفهم الأميركي. في الوقت ذاته، لا يتجاهلون مدى التعقيد الذي فرضه الحضور العسكري الروسي. هناك تقديرات متزايدة بأن التعزيزات العسكرية لموسكو في سوريا أطلقت رصاصة الرحمة على آمال أنقرة. المنطقة الآمنة كانت مثار خلاف دائم في السابق، لا مجال لتمريرها في مجلس الأمن، فكيف الآن بعدما صار تطبيقها يعني استهداف مقاتلات سلاح الجو الروسي.
هذه الخلاصات لم تغب عن حديث بترايوس للكونغرس. خلال حملة انتقاداته الشديدة لخيارات واشنطن في سوريا، لفت إلى الواقع الجديد معتبراً أن "التصعيد الروسي الأخير في سوريا هو تذكير آخر بأنه حينما لا تأخذ الولايات المتحدة المبادرة، سيقوم الآخرون بملء الفراغ، غالباً بطرق تضر مصالحنا".
المنتقدون لسياسة واشنطن، في أوروبا أيضاً، باتوا يراقبون موسكو وهي تسيّج مصالحها بخطّ أحمر عبر الحضور العسكري المباشر. التقديرات لا تزال متفاوتة. البعض يعتبر أن روسيا تريد مضاعفة وزنها السياسي في رسم معادلة الحكم السورية الجديدة، أو للدقة إبقاء النظام. آخرون يرون أن جرأة الخطوة الروسية تعكس استعدادها لدفع دمشق إلى تسوية، تضمنها موسكو بحضورها العسكري المباشر.
الرفض الأوروبي لعرض الابتزاز التركي، جاء في وقت تكتمل فيه الاستدارة الأوروبية الواضحة حول شروط التسوية السورية. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لم تقل، مثل آخرين، متى يجب أن يغادر الأسد، في مرحلة من المطاف الانتقالي، بل اعتبرت أنه هناك "حاجة" للحديث الأوروبي معه لإنهاء الحرب وإطلاق التسوية.
الموقف الالماني يأتي في وقت تستشعر برلين قوتها السياسية المتزايدة. انضمت المانيا الآن لكل من البرازيل والهند واليابان، مطالبين بإصلاح يدخلهم كأعضاء دائمين في مجلس الأمن. الموقف الألماني الجديد من سوريا ليس أحادي البعد. قبيل إعلان ميركل موقف برلين الجديد، قالت وزيرة الدفاع الألمانية أرسولا فان دير لين خلال مقابلة تلفزيونية إنه "لا يوجد تقريباً أي معارضة (سورية) معتدلة بعد الآن".
يأتي ذلك بعد حديث واشنطن، ولندن من بعدها، عن أن التسوية يمكن أن تبدأ مع بقاء الأسد، مع ترك مصيره السياسي معلقاً في "نهاية المطاف". باريس صاغت هذه الخلاصة بعبارة مختلفة. جاء ذلك مع إطلاقها أولى الغارات الجوية على معاقل "داعش" في الأراضي السورية. وزير خارجيتها لوران فابيوس قال من نيويورك إنه يحمل "وحدة رأي" أوروبية حول الأسد، يجري التعبير عنها بطرق "متمايزة".
متجاوزاً الحديث السابق عن تشكيل "هيئة حكم انتقالية" وعن كتلة "المعارضة المعتدلة"، اعتبر فابيوس أنه يجب "تشكيل حكومة تضم عناصر من النظام وأعضاء من المعارضة التي ترفض الإرهاب". لم تعد القصة، وفق شرح الوزير الفرنسي، حول متى يغادر الأسد بل ألا يبقى "إلى الأبد". قال مفصحاً عن تلك الفحوى إن مفاوضات تشكيل الحكومة الانتقالية "لا يمكن أن تكون مشروطة بأن بشار الأسد سيكون حاكم سوريا الأبدي المقبل".
هذه الأجواء كان نقلها لـ "السفير" مسؤول في خارجية دولة أوروبية، بداية هذا الشهر. أوضح أن "المسألة لم تعد الآن الحديث عن رحيل مسبق للأسد، في الحقيقة لم يعد أحد يتحدث عن ذلك"، قبل أن يضيف "لكن القضية الآن هي الاتفاق حول الجدول الزمني للدور الذي سيلعبه الأسد". ثمة تقديرات أن الاستدارة الأوروبية هي جزء من تفاهم أشمل، قدمت فيه موسكو "تنازلات" أيضاً.
القضية غير محسومة بعد كما قال المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي مستورا، بعد لقائه المسؤولين الأوروبيين هذا الشهر. اعتبر حينها أن الخلاف الجوهري بين واشنطن وموسكو لا يزال على حاله: "لم يصلا إلى نتيجة ملموسة حول القضية الرئيسية التي نعرفها جميعاً، وهي مستقبل حاكم سوريا"، محذراً من أن "الجميع مستعدون للقتال حتى آخر سوري".
الاستدارة الأوروبية حول دور الأسد في المرحلة الانتقالية كانت بدأتها وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغريني في شباط الماضي. آنذاك لفتت إلى أنه برغم الحديث لسنوات عن أن "الأسد يجب أن يرحل" لكنه لا يزال "جزءاً من الواقع"، قبل أن تعتبر أنه من الأفضل "التعامل مع الواقع لتغييره".
الأوروبيون يقولون الآن إن "أزمة اللاجئين" جعلت التسوية السورية أكثر إلحاحاً. لكن هذه "الأزمة"، كما يصفونها، خدمت برلين وأنصار الوحدة الأوروبية على أكمل وجه. العديد من الزعماء الاوروبيين بدوا متفائلين بإرساء نظام "الحصص" لتوزيع اللاجئين، وتحويله إلى "آلية دائمة" مطلع العام المقبل.
الانطلاقة ستكون مع توزيع 120 ألف لاجئ، بداية كانون الأول المقبل. حينها يفترض أن يكون قد اكتمل إنشاء مراكز كبيرة لتجميع اللاجئين وتسجيلهم في ايطاليا واليونان. هنا تمت المقايضة بين قبول الدولتين تجميع اللاجئين وبين توزيعهم، مع إغلاق حدودهما مستقبلاً. في الوقت ذاته، ستعمل بروكسل لتعزيز إمكانات وكالة مراقبة الحدود الأوروبية "فرونتكس"، كي تتولى تدريجياً حراسة الحدود الخارجية لدول التكتل.
بهذه الطريقة يكون أنصار زيادة الوحدة الأوروبية كسبوا فرض نظام مشترك للتعامل مع اللاجئين، ونظاماً مشتركاً لإدراة الحدود الخارجية. إنجاز كهذا كان أمراً سيحتاج لسنوات من التفاوض، في ظل ممانعة بعض الحكومات الأوروبية، إضافة للشعبية المتزايدة لأحزاب اليمين المتشدد الداعية لاستعادة السلطات إلى المؤسسات الأوروبية المشتركة.
إيطاليا بدت مرتاحة لهذا المسار. خلال دردشة مع مجموعة صحافيين، قال رئيس وزرائها ماثيو رينزي رداً على "السفير" إن ما تم "خطوة عظيمة لأوروبا"، موضحاً أنه بعد تردد واعتراض لأشهر "الآن باتت الغالبية العظمى من الزملاء الاوروبيين يقبلون فكرة المسارين: إعادة التوزيع (الحصص) والنقاط الساخنة (مراكز التجميع).. بعد هذه الليلة (لاجتماع القمة) باتت مشكلة الهجرة مشكلة أوروبية، وليست مجرد مشكلة إيطاليا أو اليونان أو إسبانيا".